أرشيف المجلة الشهرية

سيرة الحدّادين من "كاوا" الأسطورة إلى "تامر" القصص

مصطفى تاج الدين الموسى – العربي القديم

تقول الأسطورة:

في قديم الزمان عاش رجلٌ كردي شجاع، اسمه “كاوا”، وكان يعمل حدّاداً، في مملكة يحكمها ملك طاغية، اسمه “الضحّاك”، وصل به الظلم والشر، والتجبر إلى درجة في منتهى القسوة، استباح بها حياة الأطفال، وصار يومياً يقتل طفلين؛ لتقديم أدمغتهما طعاماً للأفاعي التي تعيش على كتفيه.

ومع مرور الأيام استطاع “كاوا” الحدّاد إنقاذ العديد من الأطفال، حيث صنع منهم بعد زمن جيشاً، نزل به من الجبال، معلناً بداية ثورة كبيرة، ونجح في قتل الملك الطاغية، والمستبد “الضحاك”؛ ليخلّص الشعب من الطغيان والعبودية، وحتى يعرف جميع الناس في الجهات كلها مصرع ونهاية الملك الطاغية، أشعل “كاوا” ناراً عظيمة؛ لتشير ألسنة لهيبها المرتفعة عالياً إلى الانتصار على الطاغية، وبداية الربيع، ربيع الحرية…

وما يزال الأكراد ــ وشعوب أخرى ــ يحتفلون بثورة “كاوا”، بإشعال النار، كما فعل البطل الحدّاد، في عيد شعبي اسمه عيد “النوروز”…

 ثمة أساطير كثيرة لشعوب المنطقة، وثمة بشر على قلّتهم وندرتهم، يشبهون هذه الأساطير نوعاً ما، ولعل أكثر ما يخطر في بالي، عندما أقرأ عن “كاوا” الحدّاد، هو المعلم “زكريا تامر”…

فزكريا تامر هو الآخر حدّاد، حيث دفعته ظروف الحياة الصعبة لترك مقاعد الدراسة مبكراً، والعمل حدّاداً، إضافة لمهن مختلفة، وكان يحلو لصديقه الشاعر “محمد الماغوط” أن يسميه “الحدّاد الذي يعيش في وطنٍ من فخّار”، حيث بدأ المبدع الكبير “زكريا تامر” حياته حدّاداً في دمشق، قبل أن يحترف فن القصة القصيرة، ويمارسها ببطولة وقوة وبأس الحدّادين، ويحولها إلى ثورتين في الوقت ذاته: ثورة أدبية على ما سبقه من مدارس أدبية تقليدية، أو إيديولوجية، وثورة على نظامٍ دكتاتوري، لطالما قصفه “تامر” في قصصه الجميلة، ومنذ أواخر خمسينيات القرن الماضي، أشعل ناراً قصصية عظيمة، معلناً ثورة إبداعية مهمة على الديكتاتورية، وعلى الكتابة التقليدية، من “صهيل الجواد الأبيض”، حتى “ندم الحصان”، وخصوصاً في “دمشق الحرائق” التي ما تزال على الرغم من مرور عقود على صدورها، من أجمل المجموعات القصصية في تاريخ الفن القصصي العربي…

 يقف “زكريا تامر”، بالنسبة لي ككاتب قصة من الجيل الجديد، وبالنسبة لزملائي القصّاصين، ولكُتّاب آخرين كثر من أجيال أخرى، كمعلم كبير، إلى جانب معلمي القصة القصيرة في سوريا، أمثال “حسيب كيالي، سعيد حورانية، إبراهيم صموئيل”، بالتوازي مع تجارب عربية بذات الأهمية الإبداعية، مثل المصري “يوسف إدريس”، والعراقي “فؤاد التكرلي”.

كنتُ في أواسط التسعينيات مراهقاً مدمناً على قراءة الكتب، مستعيناً بمكتبة البيت التي تضم آلاف الكتب، حيث كنتُ أبحر فيها ليالي وليالي، إلى أن اكتشفت قارة “زكريا تامر” القصصية، وسحرتني قصصه، وآنذاك لطالما نصحنا أدباء إدلب، بضرورة قراءة “زكريا تامر”، وخصوصاً “تاج الدين الموسى، وخطيب بدلة”، وبعد مرور ثلاثة عقود تقريباً على قراءتي لقصص “زكريا تامر”، وعلى الرغم من أنني لستُ قريباً ــ إلى درجة جيدة ــ من الأدب الرمزي، قراءةً وكتابة، إلا أن “زكريا تامر” سحرني آنذاك، كما سحر القرّاء غيري، وما تزال قصصه، حتى يومنا هذا، تمتلك ذلك السحر الخاص بها، فمن منا يستطيع نسيان “النمور في اليوم العاشر”، القصة التي حفرت داخل وجداننا عميقاً…

خلاصة القول: لدي شعور خاص بي، إن كل مبدع كبير يتقاطع بشكلٍ ما مع أسطورة ما، وكل أسطورة ما، تشبه في خيالنا مبدعاً كبيراً، فالمبدعون الكبار، والأساطير العظيمة برأيي هما وجهان لذات العملة.

من “كاوا” الكردي، حتى “تامر” القصص…

ما يزال الحدّادون الشرسون، ينتفضون ضد الطغاة، بالسيف تارةً وبالقلم تارةً أخرى، ثم يشعلون ناراً عظيمة، على التلال وفي الكتب، ناراً تُضيء للناس دروبهم الطويلة إلى الحرية، عبر التاريخ.

____________________________________________

من مقالات العدد الحادي عشر من مجلة (العربي القديم) الخاص بزكريا تامر – أيار/ مايو 2024

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى