نصوص أدبية || تحولات غيفارا أبو خليل
أبطال الحروب يتحولون لأساطير، وتُخلَعُ عليهم قصصٌ وكراماتٌ، ربَّما الكثير منها يبتدعه خيال المتحاربين

قصة قصيرة كتبها: موسى رحوم عباس[i]
برج البراجنة ذلك الحيُّ البيروتيُّ الذي تتناسل فيه المنظمات، والأعلام، والأحزاب كالجراد، ويختبئ فيه الملعونون والهاربون من بلدانهم، كله يخاف من غيفارا أبو خليل، البيريه ذات النجم الأحمر اللامع في المقدمة، والشَّعر الأسود الفاحم الطَّويل، والأناقة غير المتكلفة تمنحه هيبة لافتة، واللحية الخفيفة التي لم يصل إليها اللون الأبيض بعد، كل ذلك منحه اللقب الثائر بجدارة، وطغى على اسمه في جواز السفر، ولم يعد لعلي الإبراهيم ذكر، وهو لا يشكل حالة فريدة فمعظم أولئك الذين يذرعون الشَّوارع راجلين أو ممتطين سياراتهم العسكريَّة يحملون أسماء حركيَّة تخفي هويَّاتهم الحقيقيَّة، أبو العبد، أبو نضال، أبو كفاح، … لهجته البدويَّة القادمة من الجزيرة السُّورية جعلته يبدو فلَّاحا فلسطينيًّا، ولو أنه راح يُطعِّم هذه اللهجة بمفردات جديدة اكتسبها من رفاق السِّلاح في الجبهة الشَّعبية، وأحيانا بكلمات فرنسية سقطت على لسانه من العديد من النِّساء البيروتيَّات أو الطارئات عليها اللَّواتي عبرنَ على سريره، أو عبر هو إلى مسارحهن أو الفعاليات الثَّقافية في الأونسكو، ومقاهي الحمرا، وتجمعات المثقفين اليساريين بخاصَّة، اكتسب من هذه التَّجمُّعات ثقافة متنوعة جعلت الكثير منهم يراه مثقَّفا مميَّزا، وآخرون يرونه ثعلبا يحصد عنب الجميلات في جونية والكسليك، كانت له عادة غريبة، يحمل في جيبه آلة حاسبة صغيرة، يقوم بحساب أسهل الأرقام حتى لو كانت ثمن وجبتي طعام، ويبرِّر ذلك ضاحكًا بأنَّه يكره الرياضيات ولا يحفظ جدول الضَّرب! والحقُّ يُقال، كان يدفع ثمن مشترياته دائما، ولا يرضى أنْ يسلب شيئا كما يفعل بعض رفاقه!
أحضروا هذي الحيوان، واطرحوه أرضا، شدَّ الفلقة جيدا على ساقيه القذرين، إيَّاك أن يفلت منك، هات الخيزرانة ياولد، متى تعقل، وتحفظ جدول الضَّرب؟ واحد، اثنان، ثلاثة، يتابع الأطفال العدَّ بصوت مرتفع يغطِّي على صراخ علي الإبراهيم، كلما ارتفعت الخيزرانة ، ثمَّ هوت على قدميه. يستعطف المعلم عبد الهادي الكيلاني، يرجوه أن يستر عورته عن عيون المتلصِّصين من زملائه، لكنَّه يصرُّ على استمرار الفلقة، يتطاير اللُّعاب من شدقيه، لا أحد يتعاطف معه، يهمس ودموعه تتدفَّق، خونة، وشامتون، يتوعدهم ” دَرْب الكلب عَ القصَّاب” … حتى السِّروال لا تلبسه، يابن الكلب، تسعة، عشرة، يصمت الأطفال فجأة؛ فتتوقف يد المعلم عن الارتفاع، شيلوه، شيلوه، يحمل عدد من الأقوياء علي الإبراهيم إلى مقعده، وهو يفرك باطن قدميه الحافيتين بالبلاط، تبردان قليلا، ويتابع المعلم والطلاب جدول الضرب… كانت تلك آخر حصة يحضرها في مدرسة.
عندما وصل بيروت مع أقارب له، كان مراهقا غِرًّا، يعتمد على أبناء عمومته في كلِّ شيء، الطَّعام والسَّكن والحماية، عمل في عشرات المهن، في مغسلة السَّيارات، المخبز الفلسطينيِّ، سوبر ماركت إلياس، كيّ الملابس، توصيل طلبات المطاعم، صحيح أنَّه لا يستقرُّ كثيرا في مهنة، لكنَّه مرهوب الجانب من قبل زملاء العمل الأشقياء، يساعده على ذلك بنيته القويَّة، وتدريبات الأثقال التي صنعها بنفسه من علب حليب النيدو المملوءة بالاسمنت، مع أنبوب الحديد الذي جلبه من ورشة الخواجة طوني، الخواجة المسيحي الذي أوصله للجبهة الشعبية، وعرَّفه على الرِّفاق الذين صاروا رفاقا له فيما بعد، والذي كان يقول له علاقة الفكر أهمُّ من علاقة الدِّين أو المذهب، يا علي، انظر إليَّ أنا المسيحيُّ أجدني أقرب للرِّفاق في الشَّعبية منِّي إلى الميلشيات المسيحيَّة من جماعتي، وهو أول من أطلق عليه لقب غيفارا، الذي علق به حتى آخر عمره.
عندما اشتعلت نيران الحرب الأهلية، وصارت بيروت بيروتين شرقية وغربية، تحول غيفارا أبوخليل إلى أسطورة، فأبطال الحروب يتحولون لأساطير، وتُخلَعُ عليهم قصصٌ وكراماتٌ، ربَّما الكثير منها يبتدعه خيال المتحاربين، فهم يحتاجون لخلق أبطال مُلهِمين، ولو كانوا من مُركَّبات الرَّغائب لا الحقائق، غيفارا كان ينتقل من الغربيَّة إلى الشَّرقية بأساليب التَّمويه والخداع، يهاجم نقاط الكتائب، والنُّمور، وحرَّاس الأرز في الأشرفيَّة، ويغنم أسلحتهم وطعامهم، ويعود في كلِّ مرة سالما، أحيانا لا يطلق رصاصة واحدة، يبدِّل السَّيارة عدَّة مرَّات في الليلة الواحدة، وهذا جزء من الاحتياطات الأمنية، يؤكد الشاب الكتائبي شربل أنه رآه في مدخل الهوليدي إن، ويؤكد آخر أنه رآه في سيارته الرَّنج الفضيَّة يعبر كالصَّاروخ في شارع الفنادق، حتى مكان قريب من مكتب بشير الجميل، ورفيقه أبو العبد ينفي خروجه تلك الليلة من الشُّقة التي طردوا أصحابها منها في الغربيَّة؛ ليسكنوا بها، ويستولوا على كلِّ مافيها من مقتنيات وأطعمة ومشروبات مُستوردة، كانت النَّشرات الإعلامية للجبهة الشَّعبية، والصُّحف الصديقة تخترع القصص، وتغذي الأساطير بشهادة إعلاميي التَّعبئة في تحالف القوى الوطنيَّة والديمقراطيَّة.
استقبله الحكيم جورج حبش مع ثلَّة من الرِّفاق الأبطال تكريمًا لشجاعتهم، عندما وقف أمام القائد، أدى التَّحية بجسم مشدود، وخبط الأرض” وخبطة قدمكن ع الأرض هدَّارة” لكن الحكيم عاجله بسحب مسدسه من الحمَّالة الجلديَّة الأنيقة، لم يقاوم الرَّفيق غيفارا، ضحك الحكيم، وقال له:
- لك يارفيق، لأيش عاد شايل مسدس أمريكي؛ الظاهر ما عجبك الماكروف ؟!
- هذا مسدس كولت إم 911 براوننغ أمريكي، استطعتُ أخذه من ضابط من النُّمور، واحتفظتُ به؛ ليعطيني طاقة إيجابيَّة، ويمنحني حافزا إضافيا للقتال ضد الانعزاليين.
- برافو يا بطل، ستكون أول رفيقٍ يساريٍّ سلاحه أمريكي!
- المهم القلب يا رفيق، القلب هو السلاح! ( ضرب على صدره جهة القلب)
- ..( رفع له الحكيم شارة النصر، إعجابا بحضور بديهته)
عند بوَّابة المدينة الرِّياضية في بيروت، كان مكان التَّجمع الذي طُلب من الرِّفاق الحضور إليه في السَّاعة العاشرة صباحا، وكانت السَّفينة قد ألقت مرساتها في الميناء في انتظارهم لإجلائهم إلى تونس، الكثير منهم حملوا حقائب صغيرة اقتصرت على الضَّروريات من الحاجيات الشَّخصية، غيفارا كان مشغولا بوداع صديقته سابين، لأول مرَّة أحسَّ أنه سيغادر بقلب مكسور، سابين كانت النّسمة العذبة في حياته الصَّاخبة، احتضنها مودِّعا، وعند بوابة العبور للسَّفينة، أوقفه الرَّفيق أبو العبد المسؤول عن تفويج عناصر الجبهة الشَّعبية المغادرين وفق اتفاق إنهاء الحرب، اعتذر منه بصوت مبحوح، أنت يارفيق لن تستطيع المغادرة؛ فأنت لستَ فلسطينيًّا، ويمكنك العودة لسوريا بلدك، شعر بخنجر الخيانة يطعن ظهره، كانت الفلقة والخيزرانة تأكل لحم قدميه، والمعلَّم عبد الهادي الكيلاني يصرخ واللُّعاب يتطاير من شدقيه، كانت عورته ظاهرة لكلِّ المحيطين به، ارفع رجليك ولا حمار، يابن الكلب متى تعقل؟
بعد عدة أيام اتصل بسابين، وطمأنها بأنه بخير، ولم يجب عن أسئلتها الكثيرة عن المدينة التي استقرَّ فيها، أو خطته للمستقبل، ومتى يمكنها رؤيته، أو الالتحاق به، مُدَّعيا أنَّه لا يسمع لسوء الخطوط الهاتفية، وعليه أن ينهي المكالمة.
في نقطة “المصنع” على الحدود السُّورية اللبنانية طلب منه موظف الجوازات مراجعة الضَّابط في الغرفة المقابلة، وهي عبارة عن مكتب كبير مؤثَّث جيدا كما يبدو، لا تحمل لوحة تشير لطبيعة مَنْ يشغلها، وقف أمام شابٍّ بلباس مدنيٍّ، يشرب المتَّة وبيده سيجارة أشعلها للتو، لم يردَّ على سلامه، واكتفى بالنَّظر إلى الأوراق بين يديه، وبين فترة وأخرى يردُّ على الهاتف مكتفيا بكلمات غامضة، نعم، لا، نعم، طيب، حاضر سيِّدي، تؤمرحالا … رفع رأسه بتثاقل، وسأله هل أنت علي الإبراهيم، أجابه، نعم سيِّدي، وهل أنت غيفارا أبو خليل، لم يردَّ! ساعة واحدة كانت كافية لنقله مع حقيبته الصَّغيرة إلى المربَّع الأمني في العاصمة دمشق، وعندما أشرقت الشَّمس كان غيفارا أبو خليل محشورا في دولاب كبير، وثمَّة مَنْ يصبُّ الماء البارد على قدميه، وارفع رجليك ولا، واحد، اثنان، ثلاثة، … عشرة، خلِّ الحكيم ينفعك أيها الخائن، وستعترف بكلِّ عمالتك لأعداء القائد والوطن، هو يتذكَّر أنَّه تلقَّى زيارة من رجل ضخم الجثَّة لهجته خليط بين السُّوريَّة والفلسطينيَّة، يبدو أنه من الموثوقين في الفرع، سمع أحدهم يحيِّيه باسم الرَّفيق أبي جهاد، وأنَّه عرض عليه التوسُّطَ له بالخروج من المعتقل، كونه رفيقا سابقا في الشَّعبية، لكن عليه الالتحاق بالشَّعبية السُّورية، وأن يلعن الحكيم وأيامه، تردَّد قليلا، لكنه قبل في النِّهاية، مع شرط واحد، هو الاحتفاظ بالبيريه ذات النَّجم الأحمر اللامع، ويعاد له مسدسه الكولت إم 911، وأن يُعتمدَ رسميًا لقبه في برج البراجنة.
هاهوذا يقفز من رصيف إلى آخر في مخيم اليرموك، يتحسَّس الآلة الحاسبة الصَّغيرة في جيبه؛ ليتأكد من وجودها، وهي عادة لم يستطع الخلاص منها، إنَّه يبدو شديد الإعجاب بتلك البطاقة التي تتدلَّى من جيب سترته العسكريَّة، وقد كتب فيها” المناضل غيفارا أبو خليل، الجبهة الشَّعبية” لكنهم زادوا عليها عبارة ” القيادة العامَّة” لم يكن الأمر مُهمًّا، و”خبطة قدمكن ع الأرض هدَّارة”
استوكهولم 2025
[i] د. موسى رحوم عباس، أديب وروائي سوري، مقيم في مملكة السويد.