بصمات | الثورة السورية التي أدهشت العالم يوماً ستقف مع السويداء
د. علي حافظ
يخطئ من يظن أن معركتنا في سورية هي صراع طائفي أو حرب أهلية؛ لأن ثورتنا – في بداياتها – كانت ثورة وطنية جامعة بامتياز، وقد رفعت شعارات شاملة لكل السوريين، إلاَّ أن بطش النظام واستخدامه المفرط للقوة والعنف من أجل إخمادها، أدى إلى خروج فئات اجتماعية معينة من دائرتها، وعدم التحاق بعض الطوائف بصفوفها؛ وإحجام المثقفين والنخب الاجتماعية والسياسية عن المشاركة بفعالياتها.. كذلك لعبت العسكرة دوراً سلبياً، جعلها في نظر بعضهم حرباً للأكثرية ضد الأقليات!
كان النظام أول من استخدم الطائفية سلاحاً في حربه ضد شعبه، دافعاً بطائفته العلوية للقيام بدور المنفذ لمحرقته الكبرى بحق السوريين. ومع ذلك فإن معركتنا كانت ولا زالت ضد الاحتلال الأسدي والشبيحة والمليشيات الطائفية التي تسانده، والدول التي تدعمه وتقف معه؛ وهي ليست معركة موجهة ضد العلويين أو الشيعة أو المسيحيين أو الأقليات الأخرى، حتى ولو كان قسم كبير منها وقف ضمنياً مع النظام المجرم.. معركتنا ليست ضد بشار الأسد لأنه علوي أو بعثي أو علماني، بل لأنه مستبد وقاتل وخائن.. ليست ضد “حزب الله” لأنه شيعي أو لبناني، بل لأنه قاتل بكل وقاحة وشراسة إلى جانب الديكتاتور ويساعده على قتلنا وتهجيرنا وتدمير بلدنا.. ليست ضد إيران الشيعية أو الفارسية، بل ضد السلطة الدينية والسياسية والعسكرية الحاكمة فيها، والتي وقفت مع طاغية الشام ومدته بالمال والسلاح والرجال.. ليست ضد روسيا الأرثوذكسية أو القومية، بل ضد سياسة بوتين الفاشية الأنانية الضيقة التي لا يهمها سوى مصالحها الاقتصادية والجيواستراتيجية، ولا ترى بالعين المجردة ما يفعله حليفها الأحمق من جرائم قتل وتنكيل وتخريب في بلد أقدم اللغات والحضارات!
رفع الثوار السلاح من أجل الدفاع عن أنفسهم وأعراضهم وبيوتهم وقراهم ومدنهم، وليس حباً بالحرب والقتال؛ وقد استغل الأسد هذا الأمر واتخذه ذريعة لقمع الثورة واستخدام مختلف أنواع الأسلحة الثقيلة المدمرة والذخائر الفتاكة القاتلة.. في غضون ذلك استفاد كثيراً من أسلمتها؛ لكن هذا لا يعني أنها ثورة للإسلاميين المعتدلين أو للسلفيين المتشددين أو للمسلمين السنة فحسب، بل هي ثورة لكل السوريين؛ وليست حكراً على أحد، ولا ملكاً لطرف بعينه.. إنها ثورة شعبية قامت ضد الظلم والقهر والقمع، ومن أجل الحرية والكرامة والعزة، وليس نصرة لدين أو طائفة أو قومية أو عرق…
لقد ظهرت أمراض كثيرة في جسد الثورة خلال أعوامها الماضية، وبعضها تفاقم بشكل كارثي، ولم يعد ينفع معه أي علاج.. هذا أمر طبيعي يحدث في أية ثورة، لاسيما مع وجود أطراف كثيرة تحاول استغلالها واحتكارها لخدمة أهداف لم تقم أساساً من أجلها؛ وبالتالي جرها صوبها، وجعلها غاية وليس هدفاً، مستخدمة نفس سياسة النظام: “إن لم تكن معي فأنت ضدي!”.
استغلت بعض الجهات الدينية والقومية والطائفية والمناطقية والمافيوية الثورة، أو انشغال الثوار في حمى القتال الضاري ضد عصابة الأسد وميليشياته؛ لتؤسس دول وإمارات وكيانات عسكرية مسلحة، عملت جاهدة للسيطرة على مساحات أكبر كي تديرها باستقلالية تامة، وتفرض عليها قوانينها الخاصة دون الرجوع إلى أحد من سكانها المحليين!
هناك من سعى لسرقة الثورة من أصحابها الحقيقيين؛ فارضاً أجندة مموليه الخارجيين ومسخراً إياها لخدمتهم، لأن ثورتنا فقيرة يتيمة وعدد مموليها قد تضاءل كثيراً في الآونة الأخيرة، بل قل انعدم نهائياً.. كذلك هناك من استخدم الثورة ومازال يستخدمها لأغراض شخصية بحتة دون أن يقدم شيئاً؛ وهناك من بحث عن إيجاد موطئ قدم له فيها يبيع ويشتري ويسمسر ويستثمر دون حسيب أو رقيب؛ وهناك من أعاد إنتاج النظام الأسدي مقدماً نفسه بديلاً عنه مع اختلاف بسيط بالأشكال والمصطلحات والخطابات؛ إضافة إلى من استخدمها لصالح حزب أو جماعة أو تنظيم، متناسياً أن سورية هي تمثيل مصغر لوطن عربي كبير، أو لعالم إسلامي أكبر، أو لكون أوسع يجمع كل التناقضات والإشكالات؛ وهي متعددة الأديان والطوائف والقوميات؛ وأننا كرهنا حتى الوجع عبادة الفرد الواحد، والحزب الواحد، والشعار الواحد، واللون الواحد…
ثورتنا هي ملك لجميع السوريين، وهي إنجاز تاريخي شارك فيه جميع أبناء الوطن الواحد؛ ومن المفترض أن يكون له نتائج إيجابية تنعكس على الكل، وليس على جهة دون أخرى.. لقد نسوا هؤلاء جميعاً أن الشعب السوري الذي ثار ضد طغيان الأسد وظلمه، سيثور أيضاً ضد أي طاغية وظالم ومستبد جديد سيأتي بعده.. إن المظاهرات التي تنطلق بين الحين والحين في ادلب وريفها ضد الجولاني وزمرته ما هي إلا دليل واضح على ما أقول!
كان يجب أن تختفي جميع الخلافات الأيديولوجية والعقائدية والجهوية أثناء الثورة، حتى يتحقق الهدف العام الذي قامت من أجله، وضحى الناس بأغلى ما يملكون في سبيله؛ ومن ثم يبدأ النقاش والحوار والتجادل السلمي على شكل الحكم وطبيعة الدولة المستقبلية التي ستقام. وهذا ما يحدث عادة في أغلب الثورات والانتفاضات العالمية، إلاَّ أن الثورة السورية أصبحت استثناءً، فالخلافات دبت بين أقطابها وجهاتها المقاتلة منذ أن تسلحت الثورة؛ فأصبح لدينا معارضات داخلية وخارجية، مسلحة وسلمية، دينية وعلمانية، صوفية وسلفية، منظمة وفوضوية… إضافة إلى عدم وجود وحدة وانسجام وتوافق ضمن كل معارضة من هذه المعارضات؛ فأصبح عندنا – في وقت قصير نسبياً – عشرات التجمعات والمجالس والتكتلات المدنية، ومئات التشكيلات العسكرية، وعدد كبير من الأحزاب والتنظيمات السياسية؛ ولكل منها رؤيتها وبرامجها وبنيتها وهيكلها وكوادرها ومموليها ومحاكمها ووسائل إعلامها.
كان من المفروض أن نبتعد عن الأجندة الجهوية والمناطقية والطائفية والمذهبية والقومية والعرقية والدينية؛ وننبذ الخلافات والنزاعات والصراعات، ونخفف من الاحتقانات والحساسيات، ونضع الأمور الشخصية والذاتية والمزاجية جانباً؛ فنحن جميعاً أخوة بالتاريخ والجغرافية والمعاناة والمأساة؛ ولا نريد أن نكسب ثورة ونخسر وطن؛ أو نخسر الثورة والوطن معاً.. فالثورة التي وحدت الناس فيما يتعلق بإسقاط النظام القائم وتغييره تغييراً جذرياً؛ لم تعد تهتم بمن يقاتل قوات الأسد أو يقف ضده.. المهم بالنسبة لها هو إسقاط حكمه بأسرع ما يمكن!
اليوم لا يوجد منطقة محررة أو مستقلة في سورية، بالمعنى الحقيقي للكلمة، إلا إذا استثنينا السويداء نوعاً ما؛ لذلك يخشى مما حضره زبائنة الأسد خلال فترة ثورتها المضيئة. وهذا بذاته، ما يجعل إمكان أية جهة سورية، مهما بلغت من قوة وسلطان ونفوذ ومال، من إسقاط الأسد المدعوم من قبل قوى داخلية وإقليمية ودولية لا يستهان بها، صعباً للغاية؛ وأنه لا يمكن لأحد الأطراف أن يجد حلاً بمفرده؛ لأنه لم يعد أصلاً بأيدي السوريين منذ زمن بعيد، بل أصبح بأيدي اللاعبين الخارجيين الصغار والكبار. لذلك يتطلب النصر اليوم تضافر جميع الجهود وحشد كل الإمكانات والقدرات السورية للوقوف مع سويداء الثورة، وعدم تحييد أحد أو إبعاده مهما كان دوره وشأنه صغيراً؛ فحلم الدولة المدنية الحضارية الجامعة لكل أبناء الوطن الواحد ماثل في قلوبنا حتى النهاية، نحن الذين رفعنا يوماً الشعار التالي على لافتة رفعها المتظاهرون في قرية دابق بريف حلب يوم الجمعة 24 آب 2012:
“صنعنا ثورة أدهشت العالم.. أسقطنا نظاماً أخزى العالم.. سنصنع دولة تبهر العالم!”.