الرأي العام

مقامات أمريكية | يا سلام على لطافة الأمريكان

د. حسام عتال

مررت بالمقهى لشراء قهوتي صباح اليوم، وعندما فتحت الباب وجدت رجلاً يلبس بدلة كحلية أنيقة يفتح الباب المقابل. المقهى له بابان بينهما ردهة لتوفير طاقة التبريد في الصيف والتدفئة في الشتاء. أبقيت بابي مفتوحاً كي يمر، وفعل هو نفس الشيء من جهته، كلانا يبتسم بينما ينظر للآخر مباشرة في العين. أخيراً ترك بابه ومر بجانبي وهو يقول: شكراً جزيلاً لك، أتمنى لك صباحاً سعيداً. ولك المثل، أجبته. راقبته من النافذة العريضة وهو يركب سيارة مازاراتي حمراء مفتوحة السقف، وينطلق في اتجاه مركز المدينة.

هذا التبادل عادي في الولايات المتحدة، فالناس ودودون للغاية مع الأشخاص الذين يقابلونهم. ينظرون إليك في عينيك ويقولون “صباح الخير” أو “مرحباً”  أثناء مرورهم. يفتحون لك الباب وينتظرون مرورك في الأماكن العامة. أشخاص عشوائيون يبتسمون لك في الشارع أو المتجر، ويتمنون لك صباحاً طيباً أو يوماً سعيداً، ويقولون شكراً وعفواً حتى على أتفه الأشياء. وإذا كنت تنتظر في الطابور، فعلى الغالب أن يتكلم معك الشخص الواقف أمامك أو خلفك بحرية وانفتاح، ويطرق مواضيع مختلفة، ويثني على ملابسك أو حذائك أو ساعتك. وإن كنت تسير في الشارع فسيضغط سائق السيارة القادمة على مكابح سيارته ليسمح لك بالمرور، حتى لو كانت الأولوية حقاً له. وإن كنت واقفاً على إشارة المرور، تنظر إلى شاشة هاتفك، قد ترفع رأسك لترى الإشارة أضحت خضراء (ربما لعدة ثوان) وتستغرب لمَ لمْ ينبهك السائق في السيارة خلفك ببوقه، تشير له معتذراً فيشير بالمقابل أنه لا بأس عليك.  وإن كنت تتكلم الإنكليزية كلغة ثانية بوتيرة بطيئة، ستجد الناس يستمعون إليك بانتباه وصبر ولا يقاطعونك، ولا يسخروا أبداً إذا ارتكبت أخطاءً نحوية أو استخدمت نطقاً غريباً لبعض الكلمات. 

هذا التبادل يصبح أكثر وضوحاً عند المقارنة بما يحصل عند زيارة بلدان أخرى، فتجد أن تصرفك الودود (والذي تعلمته بعد معاشرة القوم أربعين يوماً) مستغرباً، لا بل مثيراً للحذر والريبة، وكأن المتلقي لابتسامتك يقول بانزعاج: لم يبتسم هذا الشخص الغريب لي، وما باله يتقرب لي بعبارات التحية… ما الذي يريده مني؟

هذا التصرف الودي تجاه الآخرين متأصل في الثقافة الأمريكية. فمنذ سن مبكرة جداً يتعلم الأطفال أن يكونوا لطفاء مع بعضهم بعضاً، أن يبتسموا ويكونوا ودودين ومحترمين. يتعلمون أن السلوك المشرق السعيد هو صفة إيجابية جديرة بالإعجاب والتقليد. 

يقول البعض إن هذا الود الأمريكي سطحي ومصطنع، وأن الأمريكيين يحبون الدردشة والكلام وإنهم أكثر انفتاحاً في شخصياتهم لأنهم لا يتربون على التحفظ والحذر والخوف. وأن طريقتهم في التعامل هي فقط النسخة الأمريكية من الأدب في المعاملة، نسخة أخرى تختلف بالشكل لا أكثر، وليس بالمضمون.

قد يكون ذلك صحيحاً ولكن هذا التفاعل الودي، عند اختباره، يبدو حقيقياً وصادقاً وليس زائفاً أو مصطنعاً. ففي نهاية الأمر هذا الشخص الودود لا يبدو أنه يبغي غرضاً خاصاً بمصلحة له، أو يتوقع جائزة تصيبه. هو غالباً يفعل ذلك لأنه متواضع، ولا ينتمي لنظام طبقي يرفعه فوق غيره، ويؤمن بمعاملة الناس بالمساواة، وبلطف وإحسان.  في الواقع هناك نظام طبقي في الولايات الأمريكية، ولكنه مختلف جداً عن أي نظام طبقي في أي دولة أخرى، فهو لا يقوم على اسس من البرود والتعجرف والتعالي، ولكن هذا موضوع مختلف، وله تشعباته الخاصة.

 قد يكون هذا الموقف الودود من توابع واقع العمل في أمريكا، والذي يقوم بجزء كبير بما يتعلق بأعمال الخدمات التي تتطلب أن يكون العامل لطيفاً فيُدرَّب على استخدام عبارات مثل “كيف لي أن أخدمك” أو “أتمنى لك يوماً سعيداً”. أو قد يتعلق بمهمة الوساطة الاجتماعية اللازمة للحياة في بلد يتمتع بحركية عالية، فالأمريكيون لا يرون بأسًا في الانتقال لآلاف الأميال من أجل العمل أو الدراسة أو العائلة. هذه القدرة على التواصل المبسط المباشر قد تكون أساسية لتمكين هذا النمط من الحياة الديناميكية. ومن المحتمل أن هذا التيسير والتعاون في التعامل بين الناس، على مستوى دولة بحجم قارة، هو الذي يسهل الشعور بالقيم المشتركة، ويخفف من التعصب المحلي والمناطقي. ففي وقت قصير، يمكن للشخص عادةً الاندماج في أي مجتمع محلي في الولايات المتحدة بشكل جيد بغض النظر عن أصله وفصله بسبب السلاسة في التعامل مع الآخرين. ويجب أن نذكر أن البعض، ممن يفضلون التفاسير المادية، يعزي انتشار هذا النوع الإيجابي في التفاعل لأنه الأكثر كفاءة في المحصلة، كجزء من فلسفة المجتمع التجاري الاستهلاكي، حيث تتحول هذه التفاعلات، في نهاية الأمر، لقيم نقدية سهلها وعززها هذ التبادل التعاوني الودي.

أياً كان السبب، من المؤكد أن هذا النوع من التواصل (كالذي حصل معي  صباحاً في المقهى، ويتكرر خلال اليوم) هو أفضل من بدائله. وفي الواقع أن معظم دراسات علم النفس أثبتت أن هذه الأمور اليومية التي تبدو بسيطة صغيرة حجمها، كالتودد للآخرين أو مساعدتهم، لها تأثير جمعي كبير، وتجعل الناس بالعموم أكثر سعادة. وأن القيام بها هو عمل معد، مما يعطي الدافع للآخرين لفعل الخير بالمقابل، وهذا ينعكس  في النهاية على مجتمع أكثر نجاحاً وإنتاجاً وتفوقاً. قد تكون هذه  القيم بديهية لاتحتاج للذكر أو التذكير، ولكن من المستغرب أنها لا تطبق أو تسود في المجتمعات التي تدّعي أن هيكل منظومتها الأخلاقية مبني في أساسه على ذلك.

زر الذهاب إلى الأعلى