فنون وآداب

قراءة في رواية باسم قندقجي (قناع بلون السماء): العقول الحرة في سجون الاحتلال

إياس يوسف – العربي القديم

لا يستطيع طغاة العالم ومستبديه أن يسجنوا عقول شعوبهم. ربما يمارسون عليها التضليل والتزوير والتجهيل الممنهج، لكنها في النهاية ستكون حرة ولابد أن  تأتي اللحظة المناسبة لتكشف زيف ممارساتهم التجهيلية وفضحها، والدليل على ذلك الكتابة التي ينشرها معتقلون يقضون أحكاما جائرة بالسجن كالروائي الفلسطيني باسم قندقجي الأسير القابع في سجن نفحة الإسرائيلي والمحكوم بثلاث مؤبدات، والذي فازت روايته المعنونه (قناع بلون السماء) بجائزة البوكر العربية في دورتها السابعة عشرة 2024 التي تمنحها دوله الإمارات العربية.

 تهدف الرواية منذ بداية سردها وإلى آخر كلمة فيها، إلى تفنيد المزاعم والأكاذيب الإسرائيلية حول الوجود التاريخي القديم لليهود على أرض فلسطين، من خلال يوميات شخصيتها الرئيسة نور الفلسطيني المولود في مدينة اللد واللاجئ في مخيم رام الله وهو خريج معهد الآثار الإسلامية والمتقن للغة الإنجليزية والعبرية والخبير المتميز بالآثار الفلسطينية والإسلامية حيث كان يخطط لكتابة رواية عن مريم المجدلية وأصل وجودها التاريخي  وعلاقتها بيسوع المسيح ،وهي فتاة مولودة (كما يذكر نور في الرواية) في قرية مجدل على بعد عدة كيلو مترات من شواطئ طبرية،  لكنه يتخلى عن ذلك ليتجه نحو كشف الحقائق التاريخية للتزوير الذي قام به الصهاينة لإثبات وجود أجدادهم في المنطقة وكل ذلك من خلال عمله كدليل سياحي في إحدى شركات السياحة في القدس، إذ نراه وفي آخر مرة عمل فيها كدليل سياحي رافق مجموعة سياح أمريكيين إلى موقع القرية الفلسطينية (صرعة)

يخلع قناعه الإسرائيلي الذي كان قد لبسه ليتنكر به تحت اسم (أور) ليعلن حقيقة الموقع الذي يقف على أرضه السياح المرافقين، له مبينا لهم حقيقته بفضحه التزوير الصهيوني للتاريخ مخاطبا إياهم كنور الفلسطيني اللاجئ في مخيم رام الله: (حيث تقفون لايوجد سوى نكبة وشعب هجر من أرضه…. حيث تقفون مقام شيخ تتبارك فيه النساء العاقرات من أجل الحمل والولادة ولايوجد شمشون ولا ما يحزنون..) وحين انتسب إلى معهد أولبرايت للتنقيب عن الآثار بالقدس وتطوع مع وفد للتنقيب عن آثار الفيلق الروماني السادس في مستوطنة مشمار هيعيميق مع متطوعين أوربيين وإسرائيليين وفي جولة لهم بالغابة المحيطة بالمستوطنة التي زرعها الصهاينة، يكتشفون أن تحت أشجارها آثار قرية أبو شوشة الفلسطينية التي هجرت سكانها العصابات الصهيونية في عام النكبة 1948 وأقامت على انقاصها هذه المستوطنة بعد تدمير بيوتها، في إشارة منه للفت نظر العالم إلى التزوير الجغرافي والتاريخي الذي يقوم به الصهاينة لإثبات وجودهم التاريخي في فلسطين، وهكذا ينبش باسم قندقجي في أرض فلسطين عبر شخصية نور خبير الآثار ليثبت للعالم زيف دعاوى الصهاينة بوجودهم التاريخي في  فلسطين ويدحض ما ورد في توراتهم الموضوعة عن انبيائهم وقصصهم وتواجدهم المزعوم في المنطقة والتي أحالوها إلى دليل سياحي كما قالت عنه سماء اسماعيل الشخصية الفلسطينية التي شاركت في معسكر أولبرايت للتنقيب عن آثار الفيلق الروماني السادس مع نور في مشمار هعيميق.

يقول نور في رسالة صوتية لصديقه مراد المعتقل: (في القدس يا مراد وأنا أتجرع أكاذيب وأساطير ملعوبا باسفل سافلها، أتجرعها ثم ألفظها بمناعتي وحصانتي وعزمي على مواجهة الاغتصاب التاريخي الذي نتعرض له منذ نكبتنا على الأقل…) وقد حاول الكاتب وعبر تناصين الأول ديني والثاني تاريخي من خلال التنقيب عن الآثار بالقدس من تقديم دلائل مادية على ماقام به الصهاينة من تزوير.وكدلك قدم لنا في تناصه الديني معلومات حول قصة مريم المجدلية وعلاقتها بيسوع بالإضافة إلى سرده التاريخي لثورة باركوخبا ومعركة تحتمس الأول في مجدو والإشارة إلى ماقام به جيش الإنقاذ من جرائم عام النكبة وهو تأكيد على دور التاريخ والآثار وأدلتهما في الواقع يقول على لسان سماء اسماعيل: (ألا تعلم أن الآثار سياسة؟) وكذلك نراه ومن خلال تعقبه لقصة وآثار مريم المجدلية مبيناحقيقتهاليردعلى تزويرالمستشرقين.

والصهاينة لهذه المسألة يقول نور: (أليس الاستشراق… هو من قضى على أنفاس المجدلية في بلادنا، وجعلها تترنم وتبتهل وتصلي باللاتينية واليونانية والفرنسية.)

وهكذا يتلازم بل يتناغم مساران في سرد الكاتب اﻷول عبر التناص التاريخي القديم، والحديث والمعاصر من خلال استحضاره لنصوص تاريخية قديمة وحديثة ومعاصرة أورصده لأحداث اقتحام الصهاينة لحي الشيخ جراح ومحاولتهم الاستيلاء على منازل الفلسطينيين وطردهم خارجه، أما المسار الثاني فقد سرد فيه حقيقة الأماكن في القدس كماهي لا كما ادعى الصهاينة الذين غيروا فيها لتحقيق مآربهم ،وكل ذلك قام به نور متقمصا مرةدور اور شابير الإسرائيلي  كدليل سياحي وأخرى كخبير آثار.وبين هذا وذاك (لا يوجد مقدس تاريخي عند الكاتب، فكل شيء قابل للهدم والمراجعة لغاية فضح التزوير الممنهج الذي اقترفه الغرب والصهاينة حين أرادوا تغيير تاريخ فلسطين وهدم معالمها وتشييد معالم غير حقيقية سرعان ما تنكشف).

لقد كانت تقنية المراسلات الصوتية عبر الجوال التي استخدمها الكاتب وسيلة مناسبة للحوار بين شخصية نور الحر الطليق في السجن الكبير (المخيم) وصديقه مراد المعتقل في السجن الصهيوني الصغير فلولاها لما تمكنا من التواصل مع بعضهما ومن تبادل الأفكار وبث اﻷحاسيس والعواطف اﻹنسانية تجاه ما يجري لفلسطين المحتلة.

لقد زور الصهاينة حقائق تاريخ استطاع العديد من المفكرين والكتاب تفنيده وكشفه، وكذلك حاولوا اللعب على حبل النصوص الدينية عندما كتبوا ونشروا نسخا مزورة للعهد القديم والجديد لتكون مطابقة لمرويات تاريخية وحفريات آثارية لخداع العالم وإقناعهم بوجودهم التاريخي في فلسطين ،ولكن هيهات أن يحققوا دلك، طالما هناك من يتصدى لهم ويكشف  زيف ادعاءاتهم حتى وإن كان وراء قضبان سجنهم الظالم كأمثال باسم قندقجي عبر هذا النص الذي حاولنا مقاربته والذي أثبت من خلاله أن لاشيء يقيد ويمنع مقاومة كل محتل وطاغ وديكتاتور في أي بقعة على هذه الأرض.

زر الذهاب إلى الأعلى