دلالات وقضايا | أقدم لوحة وآخر قصيدة حداثيَّة في العالم
د. مهنا بلال الرشيد
ظلَّ علماء الأنثروبولوجيا والآثار والتَّاريخ يبحثون عن أقدم موطن للإنسان الأوَّل على سطح الأرض؛ ليدرسوا آثار هذا الإنسان وفنونه، ويتعرَّفوا من خلال بعض هياكله العظميَّة إلى وجوده الأوَّل، ثمَّ ليقارنوا هذه الهياكل وأحماضها النَّوويَّة بهياكل البشر المعاصرين وأحماضهم النَّوويَّة أيضًا؛ ليستنتجوا بعد ذلك جملة من الحقائق العرقيَّة والأدلَّة الوراثيَّة، ويستفيدوا منها في دعم نظريَّة داروين التَّطوُّريَّة، الَّتي تقول بتطوُّر الإنسان عبر الزَّمن وارتقائه عن أسلاف قدماء يختلفون عنه قليلًا أو كثيرًا، وقد تدعم نتائج دراساتهم أقوال النَّظريَّات الدِّينيَّة، الَّتي تشير إلى انحدار البشر جميعهم من أبوين محدَّدين؛ هما: آدم وحوَّاء. وكما اختلف الباحثون حول أصل الإنسان على رأيين، فقد اختلفوا حول موطن الإنسان الأوَّل على رأيين أيضًا؛ حيث اعتقد أصحاب الرَّأي الأوَّل أنَّ أوائل البشر سكنوا شمال شرق أفريقيا في أوغندا وما حولها، وأشار أصحاب الرَّأي الثَّاني إلى أنَّ الجزيرة العربيَّة هي موطن الإنسان الأوَّل، ومن أحد هذين الموطنين (أوغندا أو الجزيرة العربيَّة) انطلقت الهجرات البشريَّة الكبرى بحثًا عن الماء والطَّعام؛ فاجتاز البشر الفيافي، وقطوا المسافات الكبيرة، وعبروا بعض الجبال والأنهار والمضائق والبحار؛ فوصلوا خلال ثلاثة آلاف سنة من الهجرات المتواصلة تقريبًا إلى كلٍّ من أستراليا وإندونيسيا شرقًا والعالم الجديد في الأمريكيَّتين غربًا، فملؤوا أصقاع الأرض كلَّها.
اكتشافات جديدة تُثبتُ نظريَّة التَّعارُف
نشرتُ في المقالات الأولى من سلسلة (دلالات وقضايا) رأيًا جديدًا حول أصل البشر، كنتُ قد طرحتُه في مجموعة من المؤتمرات العلميَّة، وناقشتُه في كتابي (علوم الدَّلالة) تحت عنوان (تعارف البشر)، ورأيتُ أنَّ البشر المعاصرين لم ينحدروا عن أبوين محدَّدين (آدم وحوَّاء)، ولم يتطوَّروا عن القردة أيضًا، بل ظهروا نتيجة تعارف أقوام من الهوموإيريكتوس وتزاوجهم مع أقوام من الهومونياندرتال خلال هجراتهم المتلاحقة والتقائهم بهم في بُقَع جُغرافيَّة بعيدة في رحلات البحث عن الماء والطَّعام المتواصلة؛ ونتيجة لهذا التَّزاوج ظهر الإنسان العاقل، أو ظهر جدُّ البشر المعاصرين المباشر المعروف باسم إنسان الكلام الحديث سلوكيًّا أو المشهور بمصطلح الهوموسابينيز، وتميَّز هذا الإنسان بطفرة في مجال الذَّكاء؛ مكَّنته من الكلام، ودفعته إلى القضاء على أجداده وأقربائه من الهوموإيريكتوس والهومونياندرتال خلال الصِّراع الطَّويل على الماء والطَّعام في المجال الحيويِّ، ودَعَمَت هذه النَّظريَّة نتائج تحليلات الأحماض النَّوويَّة بالإضافة إلى تزامُنُ انقراضِ إنسان النّياندرتال مع الانتشار الواسع للإنسان العاقل قبل حوالي 35 ألف سنة من وقتنا الرَّاهن، وأثبت علم تحليل الأحماض النَّوويَّة اختلافَ أعراق البشر، ورجَّحَ تنوُّعَهم وتعارفَهم وتزاوجَ أجدادٍ متباعدين عرقيًّا خلال الهجرات المتلاحقة عَكْسَ القول بالتَّطوُّر عن القرود أو انحدار البشر كلِّهم من أبوين محدَّدين، وتلقَّى أصحاب نظريَّات الصَّفاء العرقيِّ وبعض المتفاخرين بالأنساب نقدًا جوهريًّا أثبت أنَّ فَخْرَ الإنسانِ بإنسانيَّته وعلمِه ومعرفته ونَفْعِ بني البشر لا بإنشاء سرديَّات الوهم حول التَّميُّزِ العرقيِّ أو التَّباهي بعلوم ومعارف لا تخدمُ البشريَّة، ولا تفيدها أبدًا.
جِداريَّة سو لاوسي أقدم لوحة فنيِّيَّة في إندونيسيا والعالم
اعتقد العلماء بداية أنَّ الإنسان احتاج زمنًا طويلًا حتَّى وصل بهجراته المتلاحقة إلى إندونيسيا بعد ثلاثة آلاف سنة من انطلاقته الأولى من موطنه الأصليِّ تقريبًا، وظنُّوا أنَّ جداريَّة (كفوف البشر) المطبوعة على جدران كهف الأيدي (دي لاس مانوس) في الأرجنتين هي أقدم لوحة فنِّيَّة أو جداريَّة بصريَّة في العالم؛ لأنَّها ترجع إلى أكثر من عشرة آلاف سنة قبل الميلاد، وقرَّروا بعد دراسة هذه اللَّوحة أنَّ أصحابها أرادوا أن يقولوا شيئًا ما؛ مثل: نحن هنا! وربَّما أرادوا شيئًا آخر، لكنَّ اكتشاف جداريَّة الخنزير البرِّيِّ في جزيرة سو لاوسي الإندونيسيَّة غيَّر نظرة العلماء إلى أصول البشر وتاريخ هجراتهم أيضًا؛ فقد أثبتت السَّاعة الكربونيَّة أنَّ عُمْرَ هذه الجداريَّة يبلغ حوالي خمسين ألف سنة؛ وهذا يُؤكِّد وجود السُّكَّان الأصليِّين في إندونيسيا قبل هجرة الشُّعوب الأخرى إلى إليها، و يدلُّ على الذَّوق الفنِّيِّ الرَّاقي لدى السُّكَّان الأصليِّين، ذاك الَّذي مكَّنهم من إنتاج أقدم لوحة فنِّيَّة أو أقدم قصَّة مصوَّرة في العالم، وهي جداريَّة أقدم من لوحة كفوف البشر في كهف دي لاس مانوس في الأرجنتين بعشرات آلاف السِّنين!
أقدم جِداريَّة أم أقدم قصَّة مصوَّرة؟
تؤدِّي فنون البشر الجميلة كلُّها وظيفة نفعيَّة أساسيَّة ووظيفة كماليَّة أو إمتاعيَّة جماليَّة؛ فقد أدَّت لوحة الخنزير البرِّيِّ في جزيرة سولاوسي الإندندونيسيَّة هذين الغرضين على سبيل المثال، وكذلك كان كهف الأيدي في الأرجنتين بيتًا لساكنيه، وحماهم من الحيوانات المفترسة والظُّروف المناخيَّة الصَّعبة، بالإضافة إلى إشارة الكفوف المطبوعة على جدران الكهف إلى تعاون ساكنيه، وإعلائهم قيمة التَّعاون ضدَّ خطرٍ أحدقَ بهم يومًا ما. وقد أسهمت صور الأسود والعقارب والحيوانات المفترسة على أعمدة كوبكلي تبَّه وبوَّاباتها في أورفا جنوب شرق تركيا في طردِ الحيوانات المفترسة بعيدًا عن حدود هذه المملكة الزِّراعيَّة؛ وغالبًا سوف تشعر الأسود أو الحيوانات المفترسة الأخرى بالخوف والرَّهبة عندما ستشاهد صورة أسد أو عُقاب على بوَّابة هذه المملكة، ويمكنك-عزيزي القارئ-أن تتوقَّع منها ردَّة فعلٍ شبيهةً بردَّة فعلٍ قطٍّ عندما يبتعد عن المكان مباشرة بعد أن يشاهد صورته أو صورة قطٍّ آخر في المرآة أو التِّلفاز، وهذه أمثلة تؤكِّد وجود الوظيفتين: الأساسيَّة النَّفعيَّة والكماليَّة الجماليَّة في فنون البشر البصريَّة الأولى؛ كالعمارة والنَّحت والرَّسم. وقد حافظت جداريَّات البشر وفنونهم البصريَّة على أيقونيَّتها عبر الزَّمن؛ أي حافظت على تشابه اللَّوحة الفنِّيَّة وتناظرها مع الموضوع الَّذي تمثِّله؛ فعكست أشهر اللَّوحات والتَّماثيل والجداريَّات القديمة دلالات الرَّهبة والقوَّة والجلال والجمال؛ فرأس أبي الهول على جسد الأسد المفترس، وثيران إيبلا وبلاد الرَّافدين المجنَّحة، وذقون الملوك أو لحاهم الطَّويلة في تماثيل كلٍّ من إبِّت ليم ملك إيبلا وسرجون الأكديِّ وحفيده نارام سين ورِماح الجنود المرفوعة ورأس الإسكندر المقدونيِّ بقرنيه وشعره الطَّويل على العملات المعدنيَّة القديمة كلُّها مواضيع فنِّيَّة تقوم على التَّناظر الأيقونيِّ وتماثُل المُحاكاة، وتمزج بين نفعيَّة أغراضها الأساسيَّة في الدَّلالة على قوَّة المملكة وتخويف أعدائها وجماليَّة التَّصوير وإمتاع الفنِّ ورُقيِّ الذَّوق الفنِّيِّ عند أصحابها؛ ولهذا خلص دانيال تشاندلر إلى أنَّ الفنون البصريَّة الأولى تقوم على المحاكاة أو التَّناظر أو التَّشابه الأيقونيِّ بين اللَّوحة الفنِّيَّة أو الجداريَّة وأصلها في الطَّبيعة بالإضافة إلى استفادة فنَّان اللَّوحة أو مبدعها من التَّدرُّج المتتابع، الَّذي يمكِّن الفنَّان مِن مَزْجِ الواقع بالخيال من خلال لمسات رمزيَّة تُحوِّل جداريَّته أو لوحته الفنِّيَّة إلى لوحة محفِّزة يمكنها أن تنقل المعاني والمشاعر والانفعالات اللَّطيفة الكامنة وراء التَّناظر أو التَّشابه الدِّيناميكيِّ بين ابتسامة اللَّوحة وصاحبها الحقيقيِّ؛ فهل كانت جداريَّات سو لاوسي ودي لاس مانوس والثَّور الآشوريُّ المجنَّح (لاماسو) مجرَّد لوحات تناظريَّة؟!
الفنون البصريَّة التَّناظريَّة والفنون اللُّغويَّة الرَّقميَّة
معظم لوحات الفنون البصريَّة لوحات تناظريَّة أيقونيَّة؛ أي أنَّ اللَّوحة تشبه أصلَّها في الطَّبيعة، وربَّما يضيف الفنَّان إليها شيئًا رمزيًّا من خياله؛ ليوجَّه جداريَّته أو رسومه الكاريكاتوريَّة نحو مقاصد دلاليَّة وإمتاعيَّة محدَّدة، لكنَّ ما ينطبق على الفنون البصريَّة قد لا ينطبق على الفنون اللُّغويَّة نظرًا لاختلاف مادةَّ الفنون البصريَّة-كصخور التَّماثيل وأعمدة البناء وجدرانه-عن الأصوات والكلمات مادَّة الفنون اللُّغويَّة الأساسيَّة؛ فقد تطوَّرت أصوات إنسان الكلام، وظهرت لغته مع انقراض إنسان النِّياندرتال قبل حوالي 35 ألف سنة من وقتنا الرَّاهن تقريبًا، ونتيجة لاكتشاف اللَّوحات الفنِّيَّة الجديدة ستظهر دراسات أخرى تتحدَّث عن تعايش الانسان العاقل مع إنسان النِّياندرتال لمدة قريبة من30 ألف سنة قبل انقراض النِّياندرتال وتفرُّد الإنسان العاقل بمجاله الحيويِّ؛ ليبدأ الإنسان العاقل أو إنسان الكلام-خلال مرحلة التَّعايش مع إنسان النِّياندرتال قبل انقراضه-مرحلة التَّعبير بالأصوات، ثمَّ مرحلة التَّعبير بالصُّور أو الكتابة التَّصويريَّة؛ كما فعل في كلٍّ من جداريَّة سو لاوسي وكهف دي لاس مانو في الأرجنتين وعلى أعمدة كوبكلي تبَّه في أورفا جنوب شرق تركيا، ثمَّ تطوَّرت هذه الجداريَّات إلى صور وأختام أيقونيَّة في إيبلا وبلاد الرَّافدين، ثمَّ طوَّر فراعنة مصر هذه الأيقونات، واستفادوا منها في نظام كتاباتهم الهيروغليفيَّة، وخلال قرنين من الزَّمن تقريبًا تحوَّلت الصُّور والأيقونات الأولى إلى نظام كتابة رمزيَّة أو رقميَّة خالصَّة، تخلَّى أصحابها في مسماريَّة إيبلا ومسماريَّة بلاد الرَّافدين عن التَّشابه التَّناظريِّ بين الكلمة ودلالتها بنفس الطَّريقة، الَّتي تخلَّت فيها السَّاعة التَّناظريَّة-فيما بعد-عن عقارب السَّاعات والدَّقائق والثَّواني، وصارت ساعة رقميَّة خالصة.
كتب الإيبلاويُّون والسُّومريُّون والأكديُّون حوليَّاتهم وملاحمهم وأساطيرهم وأشعارهم وأناشيدهم وترنيماتهم على الصُّخور وألواح الطِّين، وظلَّ أبناؤهم يطوِّرون أنظمة الكتابة حتَّى صارت الحروف المسماريَّة حروفًا أبجديَّة في أوجاريت، ونعثر في ألواح الطِّين، الَّتي وصلتنا من إيبلا وبلاد الرَّافدين وأوجاريت على أقدم الملاحم والأساطير والقصائد والأغاني والمعزوفات الموسيقيَّة. وحافظت نصوص أجدادنا الفنِّيَّة الأصيلة خلال عشرات آلاف السَّنين في هذه البلاد على جدليَّة وظيفتها النَّفعيَّة الأساسيَّة مع وظيفتها الإمتاعيَّة أو الجماليَّة الكماليَّة؛ حتَّى صارت بعض الفنون مهدَّدة بالموت والانقراض في وقتنا الرَّاهن؛ وقبل الإجابة عن أسئلتنا المثيرة: كيف؟ ومتى؟ وأين؟ ولماذا يموت الفنُّ؟ يمكنني أن أُقدِّم لك-قارئي الكريم-ملاحظة قد تكون مثيرة؛ فإن احتاج الأجداد جهودًا امتدَّت حوالي مئتي سنة متواصلة من تطوير أنظمة الكتابة وتحديثاتها؛ لتحويلها من كتابة تصويريَّة أو أيقونيَّة تناظريَّة أو تماثليَّة إلى كتابة رمزيَّة أو رقميَّة خالصة فإنَّ جهود قراءة هذه المدوَّنات القديمة امتدَّت حوالي مئتي سنة أيضًا حتَّى تمكَّن جان فرانسوا شامبليون من فكِّ تشفير الكتابة الهيروغليفيَّة، وفكَّ هنري رولينسون تشفير مسماريَّة بلاد الرَّافدين، وفكَّ جيوفاني بيتيناتو تشفير مسماريَّة إيبلا!
متى يموت الفنُّ؟!
لم تظهر الفنون البصريَّة التَّناظريَّة والفنون اللُّغويَّة الرَّقميَّة لتلبِّي حاجات نفعيَّة خالصة أو حاجات جماليَّة خالصة، وإنَّما ظهرت لتلبِّي جدليَّة الحاجات النَّفعيَّة مع الحاجات الجماليَّة أو الإمتاعيَّة الكماليَّة لدى الإنسان؛ فالكهف بيت يحمي صاحبه، والجداريَّة داخله تؤدِّي وظيفة إمتاعيَّة جماليَّة كماليَّة، وكذلك العمود يشكِّل ركنًا من بوَّابة المنزل، والأسد النَّافر على تاج العمود أو البوَّابة يؤدِّي وظيفة نفعيَّة ترهب الحيوانات المفترسة مع متعة جماليَّة ورهبة كماليَّة، وكذلك تواصل إنسان الكلام بأصوات اللُّغة وكلماتها، وصرخ بحروفها وأدواتها، وعبَّر بها عن حاجاته للطَّعام والشَّراب والأمن والرَّاحة والأمان، وأنشد في ليالي السَّمَر كلماتها المتجانسة؛ فظهرت مواويل العتابا، وردَّد في الأعراس وطقوس الابتهالات قوافيها المتماثلة؛ فظهر الشِّعر-كمثال عن نشأة الفنون وتطوُّرها في بلادنا-ابنًا بارًّا بهذه البيئة؛ فأمتعَ أهلها، وحفظ لهم تراثهم مع تاريخ أجدادهم.
بدأت بعض النُّصوص الفنِّيَّة بالانحدار حين استأجر بعض الوافدين على بيئتنا من أصحاب الشِّركات العملاقة العابرة لحدود الدُّول أنصاف الشُّعراءَ من أصحاب أنصافِ الموقف من المنشدين أو المهووسين بالظُّهور والبطولةمثل الدُّون كيشوت-ولو كان الظُّهور على حطام الدّبَّابات المحروقة بعد انتهاء المعارك؛ لذلك قالت العرب: عصا الجبان أطول؛ لأنَّ عصاه مثل رمح الدُّون كيشوت، يمثِّل بها أدوار ابطولة بعد انتهاء المعارك، لكنَّه يحملها في الحقيقة؛ لتكون المسافة بعيدة بينه وبين الأعداء، وفي الوقت نفسه يُجعجِعُ بقصص البطولة؛ ليضحِّي بالآخرين، وانتشار هذا النَّوع من أنصاف الشُّعراء والرُّواة الشِّعر المتلوِّنين تلوُّنَ النَّائحات دليل واضح على موت الفنِّ؛ لخلوِّه من المشاعر الصَّادقة؛ فالنَّائحات اللَّواتي استأجرهنَّ الجاهليُّون مع النَّادبات لا يمكلكن مشاعرَ حقيقيَّة صادقة، ودموعهنَّ الكاذبات في البودكاستات أمام المشاهدين والمشاهدات لم تكن يومًا حزنًا على الوطن بقدر ما كانت حرصًا على أموال أولياء نعمتهنَّ؛ ومن هنا تفشَّى فنُّ الدَّجل الجديد، ومات كثيرٌ من الشِّعر والفنِّ العربيُّ الأصيل، أو بمعنى أدقّ لم نعد نشعر بعذوبة النُّصوص على منابرهم أو أفواه نائحاتهم بعدما فقدت قيمتها الحقيقيَّة النَّابعة من جدليَّة النَّفع والإمتاع والمؤانسة، وصارت على ألسنة بعض النَّائحات فنًّا مستأجرًا للتَّهريج والتِّسلية وتمييع القضيَّة الجوهريَّة وتضييع الأوقات، وبدأ ينظم بعض نصوص الشِّعر كلُّ علج سمين، وراح يرويها كلُّ فظٍّ غليظ الصَّوت والقلب من الإنس والجنِّ وباقي الشَّياطين، الَّتي تفرُّ منها ملائكة الرَّحمن في كلِّ وقت وحين.
نعم! لم يكن الشِّعر العربيُّ إلَّا ابنًا بارًّا بأهله العرب الأنقياء من أبناء البوادي والأرياف والمُدن النَّظيفة، وعندما يُستأجر بعض الشَّعارير والنَّائحات لإنشاده في بيئات مشبوهة يفقد الشِّعر قيمته؛ لأنَّه من الصَّعب جدًّا على الإنسان النَّظيف أن يحافظ على نظافته في بيئة قذرة، وهذا الكلام ينطبق على الإنسان النَّظيف، أمَّا النَّوائح والنَّادبات والرَّاوة المستأجرون؛ فهؤلاء يخنقون-من أجل الأموال والظُّهور الدُّون كيشوتيِّ-الحروفَ الأصيلة على منابر المموِّلين، الَّذين يمدُّونهم مع المُعدِّين بِغِراس الشِّعر النَّقيَّة ونبتاته الغضَّة الطَّريَّة؛ فتموت في حناجر العلوج الخشنة، وتفقد نضارتها وتأثيرها على منابر الملح، وتصير القصيدة بأصواتهم الخشنة نشازًا صحراويًّا ينذر المتلقِّي المسكين بالشُّؤم والقفار كلَّما ظهرت بوجهه فجأة بودكاستات العلوج، الَّتي تحوَّلت إلى إعلانات أو صور-بحسب رأي دانيال تشاندلر-لتمرير أقوال مضمرة يفضِّل الإعلانيُّون عدم التَّصريح بها.
بمثل هذه الأيديولوجيا الَّتي تنتزع الفنَّ الأصيل من أحضان بيئته، وتضعه-من خلال الأذناب-في مستنقع أو بيئة عفنة غير بيئته الأصيلة يموت الفنُّ، وكذلك عندما يفقد الفنُّ جدليَّة النَّفع والإمتاع يدخل في سكرات النِّزاع قبل موته الأخير، وعندما يتطفَّل الصِّغار على لغة الشِّعر الأصيلة، ويظنُّون-لسبب أو لآخر-أنَّ الصُّراخ هو الشِّعريَّة، وتهويم الاستعارات شاعريَّة، يموت الفنُّ. وقد استمتعتُ، وضحكتُ حقًّا عندما قرأتُ تعليقًا كتبَه على منصَّة الفيسبوك أحد أصدقائي من الشُّعراء الأصيلين؛ سخرَ فيه من بعض أصحاب التَّهويم، الَّذين يُقْرِفون المتلقِّي عندما يَصُفُّون بعض كلماتهم الرَّخوة أو الخشنة على شكل أَشطُرٍ أو أعمدة، ويظنُّون أنَّهم-شعرًا-يكتبون، سَخِرَ منهم صديقي الشَّاعر الأصيل، وكتب على صفحته يقول:
أكلَ السَّندويشةَ كلَّها
ولم يطعمني سوى جزءٍ صغير من قرص فلافل النُّحاس!
يصطادني الصَّباح
كأنبوب فلاليح أفلاطون
وينكسر اللِّقاء!
أَعضُّ كتفَ قصيدتي البابليَّة
فتنقشع الظِّلال
وتذهب أدمع القبلة الأولى
تائهة بين زحام القردة
على ضفاف الميسيسيبِّي
وينشرط اللِّقاء!