بصمات | وجوه متعددة للبوتكس الثوري
(من تجربة حضور أول مؤتمر للمعارضة السورية في غازي عنتاب - آذار 2013)
د. علي حافظ
هناك وجوه كثيرة… بعضها معروف جيداً ويتكرر في كل مؤتمر واجتماع ولقاء للمعارضة السورية في الخارج؛ وبعضها جديد يحضر للمرة الأولى، لذلك تجدها حائرة مندهشة من حجم البذخ والفوضى واللامسؤولية تجاه ما يحدث من إراقة للدماء ودمار للوطن!
وجوه معروفة جيداً، وصار عندها خبرة واسعة في دخول الفنادق الفخمة والتربع على منصات صالات مؤتمراتها العالية والجلوس في كراسيها المريحة؛ وأخرى جديدة تخطوا خطوات خجولة على درجاتها المخملية لتنضم صاغرة إلى جوقاتها الرعاعية الاحتفالية الصاخبة…
وجوه لا تفوت مناسبة صغيرة أو كبيرة لحضور المؤتمرات والاجتماعات واللقاءات.. وجوه هادئة رزينة أوصت بها دول الخارج وأعطتها صفة رسمية، تحاول الابتعاد قدر ما يمكن عن ضجيج وحدية واندفاعية وصدامية الوجوه الأخرى القادمة من الداخل، والتي ما زالت تحمل شيئاً من عنفوان الثورة وألقها وعنفها…
وجوه أدمنت زيارة الفنادق وحضور فعالياتها التسلسلية حسب الدراما التركية، وأخرى تنتظر دورها في التدجين، كي تخفف من جماحها التمردي؛ ويُفتح لها طريقاً باتجاه معارضة الفنادق القديمة/الحديثة.. وجوه أتقنت فنون الخطابة والمرافعة والمراوغة والمناورة، وأخرى تتلعثم قليلاً في حديثها ولا تحسن التعبير والإنشاء اللازم لمثل هذه المناسبات.
وجوه تتحدث عن الحرية والديمقراطية والكرامة والمواطنة والوحدة والتعاضد..، وتُخرج عبر تحالفات سرية وعلنية ممثلين توافقيين ليس لهم علاقة بالثورة لا من قريب ولا من بعيد.. بعضهم أضفى الشرعية على هذه العملية من خلال تسميتها بـ “التوافقية الثورية”!
وجوه من المدن والأرياف منحوتة خصيصاً للمؤتمرات.. وجوه من السياسيين والاقتصاديين والصحفيين والمشايخ والشرعيين والأطباء والمحامين المعروفين سابقاً؛ ووجوه جديدة لأمثالهم تكون هذه المؤتمرات بمثابة “بروفة” لدخولهم كواليس مسرح المعارضة الرسمية. وجوه تبتسم وتضحك وترسم صورة زاهية لواقع مأساوي فاجع وكأنها لا تعيش في سورية؛ وأخرى تحترق من الألم والحزن والفجائع ولا تعرف إلى أين يسيرون المراكب بهم/بنا!
قطار المؤتمرات الصاخبة يخترق العواصم العربية والأجنبية؛ كي تلتحق به عربات جديدة وحديثة محملة بالمؤتمرين والضيوف الأثيريين.. بعضهم يبقى في الخارج ويصبح جزءاً لا يتجزأ من معارضة الفنادق والشقق المفروشة وملحقياتها السياسية والإعلامية والثقافية والطبية والشرعية والإغاثية المنتشرة في بلاد الجوار السوري؛ وآخرون يعودون غاضبين ممتعضين مما رأوه وسمعوه وخبروه.. وجوه تطبخ الطبخة في تركيا أو مصر أو قطر أو الأردن أو السعودية أو فرنسا أو في إيران..، ومن ثم يأتي بعضها إلى عند الثوار والمقاتلين كي يتذوقوا طعم ما طبخوا، فيصدموا بأنها لم تعجبهم؛ فتبدأ مستطيلات التجاذب التي لا تنتهي أضلعها في زوايا أحيازنا الفراغية.
مؤتمرات لصحون صغيرة وكبيرة؛ وذقون لجميع المقاسات، وبطون تنتفخ؛ وعقول تتسطح؛ ورؤوس تتفلطح.. مؤتمرات لجلب الدعم، فيأتي الدعم لعقد المؤتمرات والاجتماعات والندوات والدورات التي تقوم بتدريب وتخريج دفعات جديدة من المعارضين السحريين!
مؤتمرات يجب ألاَّ تعقد في أفخم الفنادق، بل داخل الأراضي السورية المحررة حتى يكون لها مصداقية؛ ولا تكون هناك مقاربة بينها وبين معارضة بول بريمر العراقية سيئة الصيت والذكر!
مؤتمرات فاشلة من حيث التحضير والتنظيم والنتائج، فلا برامج ولا ندوات ولا دراسات ولا أرضية فكرية.. مؤتمرات للتعارف وعقد الصفقات وإقامة حلقات الذكر وشراء الذمم والولاء.. مؤتمرات للطعام والشراب واستلام الهبات والتبرعات باسم النكبة السورية.. مؤتمرات لإيجاد موطئ قدم – حتى لو عن بعد – في دروب الثورة الوعرة والطويلة.. الطويلة جداً!
مؤتمرون يفهمون في كل شيء، لذلك فهم فاشلون بكل شيء.. هم في الأول والوسط والأخير.. هم في منتهى الجهوزية، ويحضرون لأي مكان من أجل المشاركة بأعمال جميع المؤتمرات: إعلامية، تعليمية، ثقافية، فنية، حقوقية، طبية، إغاثية، هيئات شرعية، مجالس مدنية وعسكرية…
مؤتمرات تفتقد للحلول؛ ولا تحقق شيئاً للشعب السوري المسكين، ولا تخفف من معاناته وآلامه، ولا تحل مشاكله وأزماته… فنيرون الشام ماضٍ بحرق البلد تحت وصاية إيرانية – روسية؛ والعالم يتفرج على مسلسل رعبه المستمر عرضه لأعوام كثيرة؛ منتظراً ببرود نهايته السعيدة التي لن تأتي أبداً؛ ما دامت مؤتمرات المعارضة تعقد من أجل المؤتمرات فقط، وإنتاج ممثلين السياسيين ضعفاء للثورة السورية؛ ما دامت الأمور قد سارت نحو أسلمة الداخل بسرعة قياسية، ونحو فندقة معارضة الخارج وحشرها بأبراج عالية تبعدها عن طريق الثورة المعمدة بآلاف الأرواح والمغسولة بأنهار غزيرة من الدم!