فنون وآداب

واقعة منع أغنية في إذاعة دمشق

د. أحمد برقاوي – العربي القديم

أجرى معي المذيع  المعروف طالب يعقوب حواراً إذاعياً في برنامجه  الحميم جداً (رحلة في زورق الليل) وكان ذلك في عام 2008 وكم كنت سعيداً بهذا اللقاء الذي قاده المحاور بحرفية عالية وثقافة غنية. كان من بنود هذا البرنامج أن اختار أغنية فاصلاً موسيقياً في مسيرة الحوار. وفي لحظة اختيار أغنية ما اخترت أغنية عبد الحليم حافظ  “يا سيدي أمرك أمرك يا سيدي” وكان الدافع الأول لاختيار هذه الأغنية حب زوجتي لها. وبعد انتظار قليل، ما كان من مخرج البرنامج إلا أن طلب من طالب يعقوب أن يسألني أغنية أخرى اختارها. والسبب أن هذه الأغنية بالذات ممنوعة من البث من الإذاعة السورية.

 أصابتني الدهشة ولم أصدق الأمر. وسألت صديقنا المحاور: أغنية لعبد الحليم حافظ من فيلم كوميدي يشترك فيه الممثل الكوميدي الرائع عبد السلام النابلسي ممنوعة من البث، لماذا؟ أمر لا يصدق, لماذا؟ أجاب الرجل محرجاً:  أنا -صدقني- لا أعرف لماذا. على أي حال اختر أغنية أخرى… فاخترت أغنية الجندول لعبد الوهاب.

أنا بدوري لا أعرف السبب المباشر للمنع، ولكني حللت وركبت وانتهيت إلى أن السبب هو التالي: المسؤول الذي اتخذ قرار المنع آنذاك وجد أن كلمات الأغنية قابلة للإسقاط على المرحلة، وخاصة أن الأغنية تحتوي على مقطع يقول:

“ما قدرش أخالفك لأني عرفك تقدر تحط الحديد بإيدي أمرك يا سيدي أمرك يا سيدي”.

المسؤول عن المنع ارتكب  حماقات ثلاث دون أن يدري.

الحماقة الأولى: أنه اعترف اعترافاً مباشراً أن لكلمات الأغنية دلالة واقعية تنطبق على واقع الحال. أي أن مخالفة الإنسان لرأي السلطة يودي به إلى الأصفاد. وهذا في واقع الأمر، إقرار من المسؤول بأن رأيه شبيه برأي الناس، وتأويله شبيه بتأويل الناس إن استمعوا للأغنية. إنه يقول بصراحة: “هذه الأغنية تنطبق على ممارستنا”.

الحماقة الثانية: يعتقد هذا «المانع» الذكي أن المواطن إذا لم يستمع لهذه الأغنية من الإذاعة السورية فإنه لن يسمعها أبداً من أي إذاعة أو تلفزيون أو من أي وسيلة تسجيل أخرى في عصر الثورة التكنو-الكترونية.

 الحماقة الثالثة: أن المانع لا يدرك ما يقدمه المنع من مكافأة للممنوع؛ حيث يحب الإنسان كل ما هو ممنوع، ويخلق لديه نزوعاً نحو الإطلاع على ما منع، فإذا عرف المواطن بمنع أغنية: “يا سيدي أمرك” وشاع أمر المنع، فإن كل الناس يبحثون عن شريط كاسيت أو ما شابه ذلك مسجلة عليه هذه الأغنية.

وحسبي مثالاً على وظيفة المنع بالنسبة إلى الممنوع رواية حيدر حيدر “وليمة لأعشاب البحر” التي منعتها الرقابة المصرية بعد احتجاج الإسلامويين على بيعها، وكنت يومها في القاهرة. إذ مجرد ما أشيع المنع صار الطلب على الرواية كثيراً جداً حتى وصل ثمن النسخة المصورة أكثر من مئة جنيه. حتى إن صديقي الفيلسوف الراحل حسن حنفي طلب مني أن أوفرها له وفعلت. ولا أذكر كيف تسنى لي الحصول على نسخة مصورة من الكتاب، يومها قال الدكتور حسن: “سلطة غبية”.

وأذكر حادثة بأن أحد معارفي من الكتاب المغمورين  ألف كتاباً سياسياً وذهب إلى الرقيب في وزارة الإعلام وطلب منه منع طباعة الكتاب، لكن المسؤول عن المنع لم يجد سبباً لمنع طباعته. والحق إن سلمان رشدي يُدين للخميني بانتشار روايته (آيات شيطانية)، حيث أدت فتواه إلى منع الرواية من جهة إلى انتشارها وترجمتها وصرنا نتناقلها مترجمة.

نعود إلى الأغنية، وهي أغنية غير سياسية أولاً، ومنعها من إذاعة محلية لا يعني شيئاً لأنها صارت متوافرة، وكتب ابن تيمية وسيد قطب زاد انتشارها أضعاف مضاعفة بسبب منعها.

ما هذا النظام الذي يخاف من أغنية؟! أيها الرقيب العجيب والغريب العامل في سلطة غريبة وعجيبة

خالفوك وخالفوا سيدك الرأي، فقتلتهم ووضعت الحديد في أيدي الأحياء، ولسان  السوري الذي خرج في الساحات يقول: أخالفك  الرأي حتى ولو وضعت الحديد بإيدي, وأنت  لست سيداً أصلاً!

زر الذهاب إلى الأعلى