أرشيف المجلة الشهرية

مازن الحمادة: ناجٍ من الموت، عائد إليه!

 المسيح السوري يجد في النجاة وحيداً موتاً ذليلاً.

إيمان الجابر – العربي القديم

حين يأتي الموت، الذي لا بد أن يأتي، يجب أن يرانا، وقد استنزفنا حياتنا حتى الرمق الأخير. عشنا الحياة بكبرياء وكرامة، وأدّينا واجبنا نحوها بشرف. (ممدوح عدوان)

سوريا حرة يا مازن…

أنت العائد الذي لم يعد، لم تعد هناك سجون ولا سجانون. رأيت صورتك الثابتة الأخيرة، وجهك المتورم يحمل بصمات المجرمين، تعيد رسم ملامحك، وتُظهر بقايا عينيك المثقوبتين، ما زالتا تحدقان، تعكسان وجه القاتل، أسنانك تعض على الألم، لتفرج عن ابتسامة المنتصر بموته، تفوقت عليهم حتى اللحظة الأخيرة. أنت الذي ذهبت إلى مصيرك المحتوم، لتغلق باب حكايتك الأسطورية.

 المسيح السوري يجد في النجاة وحيداً موتاً ذليلاً. أردت موتاً مستمراً، خالداً، تسابق الرسامون لتخليد وجهك، ذلك الوجه الحائر، الباكي، الغاضب، المؤمن، الكافر بكل دعاة الحرية ومن تاجروا بقضية المعتقلين. كنت وحدك الشاهد والشهيد في محاكم دولية، استمعت إليك، سجلت أقوالك، ثم أغلقت الملف ووضعته في أدراجها.

لا تحتاج إلى قراءة كتاب عن مازن لتتعرف عليه، ولا لسماعه، يصف ما جرى له خلال اعتقاله الثالث، ما قبل الأخير، يمكنك أن توقف الصوت، وتثبت الصورة. انظر إلى عينيه، تفاصيل وجهه، ودع خيالك يقودك إلى ذلك الجحيم الذي يصفه، ستشعر بالعجز لما لا يمكن وصفه، إنما فقط تعيشه حتى الموت.

أمام الكاميرا، بصورته المتحركة، يستخدم مازن الحمادة كل تفصيل في جسده، ينهض من مكانه ثم يعود إليه، مختنقاً بالأسئلة، تقترب الكاميرا من وجهه، يكفي أن تنظر إلى عينيه المثقوبتين، تنزف دمعاً حارقاً، بلا توقف، ترسم بقايا خريطة لبلاد سحقتها قبضة الوحش.

 نظراته المهزومة، عاجزة عن الفهم، كل هذا الموت لنا؟! أليس لديكم وسيلة أخرى للحوار؟!، قلنا نريد الحرية، ولم نقل أعطونا نصيبنا من ثروات البلاد.

   تتمنى لو كنت قريباً منه لتحضنه، تمسح جبينه، تزيل الدموع التي بدت، وكأنها من أصل ملامحه، ولد باكياً، عاش ومات باكياً، البكاء قهراً أبدياً يعرفه أبناء البلاد.

مازن، الذي وُلد مرتين ومات مرتين، عاد إلى مصيره ليكتب الفصل الأخير من أسطورته، أسطورة الناجين الذين لم ينجوا تماماً، وأولئك الذين عُذّبوا، قُتلوا، ثم اختفوا، تاركين وراءهم أسماءً وأرقاماً، تبحث عن أثر أو قبر يشهد على وجودهم.

كيف يمكن لجرح مفتوح أن يلتئم؟ أو لروح مثقلة بالذكريات أن تهدأ؟ لماذا عاد مازن حمادة إلى الجحيم الذي أفلت منه؟ أسئلة تهزّ الوجدان وتترك الإجابة معلقة، كأن الحكاية ترفض أن تُفسَّر أو تُختزل. ربما دفعته خيبة العدالة التي تهادنت مع الظلم، أو ألم الوحدة التي تغلغلت في غربته، وربما لم يستطع أن يهرب من الوجوه المعذبة التي ظلت تلاحقه، تستغيث به وتطالبه بالعودة.

في غرفته الصغيرة بهولندا، كان مازن ينهض كل ليلة ليواجه ذاكرته، جثث كثيرة عرفها، حملها، لكن جثته الأولى كانت الأكثر إيلاماً، (الجثةالأولىالتييُكتبعليكحملهاإلىالخارجأشبهبنصليخترقك)، كما روى للصحافية الفرنسية (غارانسلوكان)، شريكته في التوثيق.

“عدت إلى الزنزانة، وفي حلقي صراخ. أنا التائه الممزق، المغلوب على أمره. لو أقرع بقوة هذا الباب، لو أصرخ، لو أشتم الحراس… آه من جثتي الأولى!”.

في تلك الليلة، حمل مازن جسد صالح، الذي عُذب حتى الموت، وسلمه إلى سيارة روسية، كان كأنه يحمل نفسه، يودع روحه قطعةً قطعة، ويرى في وجه صالح انعكاساً لآلاف الأرواح التي لن تُنسى.

لكن الذاكرة لم تتركه، بل لاحقته حتى منفاه. الشاب الصغير من داريا، الذي أحرقوا وجهه وصدره، كان يزوره في أحلامه، يسأله بعينين ميتتين: (هل نسيتني يا مازن؟).

“رأيته يذوي، جُننت، صرخت: علقوني على النافذة، دعوني أمُت هنا، ليتوقف العالم”.

لم يستطع مازن أن ينسى، ولم يشأ أن ينسى. كان يحمل قصته كصليب ثقيل، يرويها في المحاكم الدولية، أمام الكاميرات، وحتى للغرباء. لم تكن رواية القصة مجرد فعل، بل كانت صرخة مقاومة: (لن أخون منهم مثلي، لن أنسى، حتى لوكان النسيان خلاصاً).

مازن كان أكثر من شاهد، كان الشاهد والشهيد. عاد إلى سوريا، ليس ضعفاً، بل اختياراً، كان صراعه مع الموت صراعاً من نوع آخر. (ها أنا هنا، أفعل ما شئت، جسد يملكك، لكن روحي لن تنكسر).

“كلي يقين بأنه قال: جاؤوا من سيأخذون حقي، وصلوا إلى حلب، وهم في طريقهم. سيصلون بعد قليل ويفتحون أبوابكم المغلقة، سيكون لي قبرٌ في بلدي، لن أُدفن خارجه”.

جنّ جنونهم، ضربوه، هشّموا أضلاعه، طحنوا عظامه، لكنهم لم يستطيعوا قتله تماماً. ترك مازن وراءه إرثاً ثقيلاً: قصة رجل واجه أقسى ما يمكن أن تواجهه روح بشرية، وبقي رمزاً لمن لا ولن ينسى.

أيها العائد إلى الغياب، لم ولن تغيب، أنت النور الذي يضيء عتمة الزنازين، والصوت الذي يملأ الصمت بالحق، أنت الشاهد الذي لن تموت شهادته.

هو مازن البسيس، الهايس، الحُمادة، الفواز، الجابر، العُمَر، (بمحاذاة موحسن، على طريق المريعة، باتجاه الشمال تقع منطقة البوعمرو ، حيث ولد مازن سنة 1970 وعاش)، بعد ذلك استقر في دير الزور المدينة.

  _________________________________________

 من مقالات العدد الثامن عشر من (العربي القديم) عدد الاحتفال بالنصر، الخاص بشهداء ثورة القرن – كانون الأول/ ديسمبر 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى