قراءة في كتاب الحلم السوري لغسان عبود: تشخيص المشكلات السورية وتأصيلها
د. فطيم دناور – العربي القديم
مؤلف الكتاب هو غسان عبود رجل الأعمال السوري الشهير، الذي يمتلك شركات تجارة دولية تشمل السيارات والتجزئة، والاستثمارات الفندقية والشحن البري والتجارة الإلكترونية. وهو مؤسس ومالك مجموعة أورينت الإعلامية، التي كانت صوت السوريين في قضيتهم، كما كانت مظلة عبود للقيام بالعديد من الأعمال الإغاثية للشعب السوري، يضاف إلى أنه سياسي مستقل شارك في العديد من المؤتمرات التي عقدت لحل القضية السورية، وكتب عنها.
والكتاب هو مجموع مقالات وبحوث منشورة في موقع أورينت، وعددها (22) اثنتان وعشرون، نشر أولها بتاريخ 4-11- 2015 وآخرها بتاريخ 4-4-2022، وقد ذيل كثير منها بملحقات وحواشٍ توضيحية. وهي متسلسلة مترابطة كفصولٍ في كتاب، متنوعة المادة بين تجارب شخصية للمؤلف، ووقائع تاريخية أو معاصرة، استخدمها لدعم الرأي وتقوية الحجة. وختم الكتاب بثبت المراجع التي استند إليها.
أما غلاف الكتاب فهو لوحة لرسام الكاريكاتير السوري العالمي علي فرزات، تجسيد كلمات العنوان، فالعنوان هو العتبة التي ستقودك إلى المتن، وهو ينقسم إلى محورين أساسيين يدور حولهما الكتاب برمته: تشخيص الداء- ووصف الدواء. ولقد عمل المؤلف على شرح الأسباب التي أودت بسورية إلى الهاوية، ودفعت السوريين إلى الانتفاضة في وجه النظام، فرجع إلى التاريخ واستخرج من بطون الكتب ما يثبت عظمة سورية الكبرى جغرافيًا واقتصاديًا وسياسيًا، ومن الكتب ذاتها استخرج تاريخ الأقليات وهجرتها إلى بلادنا ولوذها بشعبنا الكريم، ثم كيف ثبتت أقدامها، وراحت تستغل كلّ فرصةٍ للاستقواء بالقوى الخارجية على سكان الأرض الذين آووها وأكرموها، وتتبع ممارسات تلك الأقليات وخصوصا الأقلية العلوية، ومنها أسرة (أسد) وما قامت به من تقويض لكل أسس الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وصولًا إلى تغولها على المجتمع، وانقضاضها عليه، واستقدام المستعمرين إلى الأراضي السورية، أو تسببها بهم.
وبما أن المؤلف رجل أعمال ناجح ينكر العجز، ويؤمن بقدرة الإنسان على ترويض المستحيل، ويثق بقدرة الإنسان السوري على استثمار إمكانيات بلاده؛ وضع المؤلف حلولًا ومبادرات قدمها للنظام قبل ثورة 2011، أو بعد قيام الثورة وتفكك البلاد، ولذلك استخلصت أهم الأفكار التي تندرج تحت المحورين المشار إليهما “حلف الأقليات- والحلم”، أو “المشكلة والحلول”، فركزت على الأفكار الخلاقة التي تحمل بذور حلول، أو تشير إليها، وتسهم في الخروج من الكهف المظلم الذي حُبس فيه السوريون، فكان أهم نقطتين في المشكلة، هما تقلص الخارطة السورية وخسارتها للأرض والكتل البشرية، والثانية السعي للانفصال من قبل الأقلية الكردية المهاجرة. أما الحلم السوري، فيندرج تحته مبادرات الحل وركائزه، وسيرد الحديث عنها لاحقًا.
سورية الكبرى من الانحسار إلى الزوال
يعتقد الكاتب أن تدهور سورية، بدأ منذ وعد بلفور (1917)، الذي هيأ لإنشاء دولة لليهود “وطنا قوميا” على الرغم من أنه جاء متأخرًا عن سايكس بيكو سنة، إلا أن لأروقة السياسة خفاياها، فمنذ ذلك التاريخ بدأت عملية تحويل سورية إلى دولة تستنزف حتى الموت في سعي لإزالتها عن خارطة الدول “لا تقوم دولة حتى تمحى دولة”.
قبل (سايكس بيكو) كانت سورية تمتد من حدود طوروس شمالا إلى حدود قناة السويس، بما فيها شبه جزيرة سيناء جنوبًا، وغربًا المتوسط، وشرقا دير الزور، وصحراء بلاد الشام، بمساحة تقدر بنحو (540) ألف كيلو متر، أي كمساحة فرنسا تمامًا، ثم قسمها الإنكليز والفرنسيون: فكان الجزء الجنوبي (فلسطين وشرق الأردن وجنوب سورية الشرقي مع العراق) لبريطانيا، و(شمال سورية بما فيها المناطق الحالية المحتلة من تركيا إلى حدود العراق شرقًا، مع شرق سورية حتى الخط الفاصل مع حدود إسرائيل قبل (1967) لفرنسا.
والدولة السادسة دولة لواء الإسكندرون، والدولة السابعة هي المنطقة الشمالية، وهي تضم: مرسين وطرسوس وكيليكية وأضنة ومرعش وعنتاب وكلس والبيرة وأورفة وديار بكر وماردين، وهي ما يعادل مساحة سورية الحالية، فقامت فرنسا بمنح تركيا مناطق الدولة السابعة في اتفاقية أنقرة 1921، ثم عززتها بمعاهدة لوزان فضمت بموجب هذه المعاهدة إقليم كردستان شمال شرق تركيا، الذي كان قد أُعطي حكماً ذاتيًا وفق معاهدة (سيفر) أما لواء الإسكندرون، فقد ضُم َّإلى تركيا عام (1939)، كما أن خط الحدود منح تركيا نصف مناطق نصيبين وجرابلس ورأس العين، وفي عام (1967) خسرت الخارطة السورية هضبة الجولان (2000) كم، بتسهيل من وزير الدفاع السوري آنذاك حافظ الأسد. وبذلك تكون سورية الحديثة قد فقدت نحو ضعفي مساحتها وشعبها (183.4) ألف كم، ومع ذلك استطاعت لغاية (1958) أن تكون دولة نشطة في سلم النتاج العالمي، قبل أن يستولي عليها نظام العسكر، فتتدرج بالتحول إلى دولة فاشلة، تجلس في المرتبة الأخيرة في سلم النتاج العالمي.
ويرى الكاتب أنه منذ وعد بلفور، بدأت عملية استنزاف سوريا استنزافًا يمهّد لإزالتها عن الخارطة نهائيًا، ولذلك في كل محنةٍ تعمل القوى الدولية على اقتطاع جزء منها، إما بالمعاهدات كما حصل سابقًا (سايكس بيكو، لوزان، الاسكندرون) وإما بتقسيمها وفقًا للأقليات الدينية والإثنية والعرقية. وبعد ثورة 2011 كان من أبرز الأصوات الانفصالية صوت الأكراد الذين استغلوا رغبة النظام باستثمارهم لتخويف الأكثرية من شبح التقسيم، فقدم إلى سورية أعضاء من حزب العمال الكردستاني التركي، وشكلوا أحزابًا محليةً تابعةً لهم، واستولوا على مناطق الجزيرة العربية، وهجروا أهلها تحت ذريعة محاربة داعش، كل ذلك بدعم لا محدود من الولايات المتحدة الأمريكية، وحمايتها. فهل للأكراد أرض في سورية فعلًا؟
الوجود التاريخي للأكراد وحلم الانفصال
لم يكن للأكراد وجود في سورية قبل 1925، وكان بداية تحركهم عندما تحالفوا مع أتاتورك، بعد تخلي فرنسا عن سورية الشمالية (مدن جنوب تركيا الحالية)، فشنوا حرب تهجيرٍ وإبادةٍ ضد السريان والأرمن، حتى أرغموهم على الهجرة إلى سورية الحالية، فوجد الأخِيرون لدى سكانها العرب ملاذًا مسح دموعهم ويضمد جراحهم، فأنشؤوا مدنًا على حدودها كمدينة القامشلي.. أو تجمعوا في مناطق اقتطعت لهم من المحافظات المتفرقة.
ولكن سرعان ما نقض كمال أتاتورك عهده للأكراد، فثاروا عليه بقيادة سعيد بيران (1925)، فقمعهم بقوة، وهجر أكثر من (30) ألفًا منهم إلى سورية ملتحقين بالأقليتين السريانية والأرمنية، ومن فطنة وزير المعارف في حكومة تاج الدين الحسيني (1931)، ومؤسس مجمع اللغة العربية محمد كرد علي (كردي)، أنه تنبه إلى خطرهم، وما يمكن أن يقوموا فيه مستقبلا من حركات انفصالية فاقترح توزيعهم في مناطق الداخل السوري؛ لئلا يؤدي تجمعهم في الجزيرة السورية إلى اقتطاع جزء منها مستقبلًا لإقامة دولتهم المزعومة، وهكذا كان.
ثم تبعوا في تحركاتهم السياسية لمؤسسَين: العراقي مصطفى برزاني والد مسعود البرزاني مؤسس إقليم كردستان العراق، وهو يدعو إلى بناء دولة كردية قائمة على حكم الأقلية الأرستقراطية. والتركي عبد الله أوجلان، الذي دعا إلى دولة اشتراكية، وانبثق عن حزبه (حزب العمال الكردستاني): حزب الحياة الحرة الكردستاني في إيران، وحزب الحل الديمقراطي الكردستاني في العراق، وحزب الاتحاد الديمقراطي، وقوات سورية الديمقراطية، ووحدات حماية الشعب في سورية، كلها أحزاب كردية تتفق قليلًا وتفترق كثيرًا. وانتهجت هذه الأحزاب سياسة انتهازية، تعمل على انتظار قيام أيّ زعزعة، أو فوضى أو انشغال لحكومة الدولة التي يقيمون فيها، فيعلنون تمرّدهم عليها بدعم استعماري خارجي، حصل ذلك مرات عدة كحرب العراق وإيران، وحرب العراق والخليج، وأخيرًا الثورة السورية.
ويخلص الكاتب إلى النتيجة القطعية التي يؤمن بها السوريون، ويشهد عليها التاريخ: “ليس للأكراد حقوق تاريخية في سورية بالمطلق، وإنما لديهم حقوق مواطنة كاملة كما السوريين، في حال قيام حكومة ديمقراطية أو رشيدة“، وبناء عليه كان الكاتب يطرح الحلول وفق رؤية سورية الموحدة باختلاف أعراقها وعقائدها، فما تلك الحلول وما ركائزها؟
ركائز الأمة السورية
عمل الكاتب على استخلاص ركيزتين سوريتين أصيلتين مخلصتين في وطنيتهما ودورهما في بناء المجتمع اقتصاديًا واجتماعيًا وربط عراه، وهما فئة رجال الأعمال السوريين، ونظام القبيلة، فالأولى عصب مجتمع المدينة والقرية، ولا تستغني عنها البادية، والثانية عصب البادية والقرية، ولا تستغني عنها المدينة، ورغم التباين بينهما إلا أنهما تتشابكان في مناطق عدة كمنطقة جنوب سورية، حيث درعا وقراها والسويداء وقراها.
ونبّه الكاتب إلى المفاهيم الخاطئة الشائعة عن القبيلة من بدائية، وتشدد وجهل وغزو وثأر.. مفاهيم نشرها المستشرقون، حتى يغطّوا على قوة غيبية لهذا الشكل من النظام الاجتماعي، وقد آن الأوان للإقرار بالقبيلة كواقع تاريخي لا يمكن تجاهله، وضرورة اجتماعية لُمست في هذه المرحلة من حياة الأمّة، ففي غياب حكم الدولة، وتدهور الوضع الأمني، عاد كثير من التجمعات والأفراد في سورية إلى القبيلة لتكون الملجأ من الانفلات الأمني، وأمام انقلاب الدولة وتوحشها على أبنائها كانت القبيلة آخر حصن للنجاة.
ولا يخفى على المراقب دور العشائر في توسيع الاحتجاجات، حتى شملت عموم سورية، فشيوخ العشائر، يتمتعون بسلطة واحترام بين الشباب، رغم الكلفة التي سيقدمونها جراء مواقفهم هذه، وكان للصِلات التي تربط بين قبائل الشام والجزيرة دورها في حشد الدعم من قبائل الخليج السوري، ولفت الكاتب إلى دور القبيلة في لمّ شمل المجتمع السوري المتهالك، إعادة توحيد الكلمة، وبناء تجمعات، يمكن أن تسهم في تجميع الخارطة السورية ثانية، واستنادًا إلى ذلك أدرجها ضمن أركان مشروع المناطق الميثاقية، كنظام اجتماعي أمني اقتصادي، يمكن أن يقدم الكثير للمشروع. وهو بهذا يستخلص الحلول من رحم المجتمع، فلا يشعر المجتمع بالغبن أو الاغتراب أو النفور، فهذه نظم يتوارثها أبناء سورية ويألفونها.
مجتمع الأعمال
لقبهم الكاتب بـ”حراس الأمة السوريون التاريخيون”، وكي لا يفهم من كلامه أنه يقصد التجار الفاسدين الذين تسلّطوا على رقاب المجتمع السوري، وكانوا معولًا حادًا في هدم بنيته اجتماعيًا واقتصاديًا، صنف التجار في المجتمع السوري إلى فئات، وقدم تعريفًا مبسطًا عن كل فئة ونشأتها ودورها التاريخي والحالي، فكان: التجار والصناع التقليديون في دمشق وحلب وغيرهما من أبناء العائلات العريقة، الذين لم يهاجروا من سورية رغم ضغط حكم الوحدة وحكم البعث. هؤلاء غالبيتهم من العرب السنة، وهم محافظون ولكنهم يرفضون التطرّف، ويميلون إلى مناصرة الشعب، ثم فئة التّجار الطفيليين الذين خُلقوا مع حزب البعث وتكاثروا، ومعظمهم من سقط المجتمع السوري، ينتمون لمختلف الطوائف، ويتميزون بالفساد والوصولية، حمّلهم الكاتب وزر ما حلّ بالمجتمع من انهيار اقتصادي. ثم فئة المهاجرين، ومنهم المهاجرون الأبديون الذين انتشروا في دول أوربا وأمريكا، وتغيرت أسرهم ولغتهم، هؤلاء لا يكترثون لسوريا، ولا لما آلتْ إليه حال المواطن من فقرٍ وجوعٍ، فكلُّ ما يعنيهم من سورية أنّها بلدُ السياحة التي يقضون بها إجازاتهم بأسعار رخيصة، ويثبتون تفوقهم على أقرانهم في الوطن. وبالمقابل برزت فئة ثانية من المهاجرين الدائمين أظهرت ولاءها ودعمها لشعبها، فباركت الثورة وأسست المجالس، وما زالت تشكل الدعم الأبرز للشعب السوري في أروقة المحافل الدولية. وثالث فئات المهاجرين فئة مهاجرة مؤقتًا إلى دول الخليج، أغلبهم عصاميون بنوا أنفسهم من الصفر، وهؤلاء مختلفو الموقف، منهم من أعلن دعمه لشعبه وهم الأكثرية، ومنهم من صمت، ومنهم من يدعم النظام.
ركز الكاتب على الفئة التي تضم رجال الأعمال المخلصين، وسماهم “الأسر السورية النبيلة” وهي فئة البرجوازية النبيلة، ورأى انهم حماة الأمة ومحرك اقتصادها، لما يمكن أن تقدمه هذه الفئة للمجتمع من نهوض اقتصادي، ببناء المنشآت وخلق فرص للشباب، كما أنها تنقل خبرات الأمم الأخرى للمجتمع السوري، وتعمل على تطبيق التجارب الناجحة فيه، وهي في الوقت ذاته صورة المجتمع المشرّفة أمام المجتمعات الأخرى. لكنها وللأسف لم تجد من يساندها، بخلاف جميع الفئات الاجتماعية الأخرى، فهي تتعرض للتشنيع واللوم، من قبل الشعب، والضغط والابتزاز من قبل النظام.
الحلم السوري
عمل الكاتب على تشخيص المشكلات السورية وتأصيلها، للوصول إلى الحلول الممكنة، وبما أنه رجل اقتصاد له اطلاع على اقتصادات الدول ونهضتها، قام بنفسه بالدعوة لمبادرات في مراحل مختلفة مدفوعًا بغيرته على وطنه، ومنها:
إنشاء مناطق تجارية حرةآلم الكاتب انحسار دور سورية على خارطة العالم الاقتصادية، مقابل نهوض إمبراطوريات اقتصادية، قد لا تملك ما تملكه سورية من الإمكانيات البشرية والجغرافية، فقام بتقديم مقترح المناطق الحرة عام (2003) لرئيس المخابرات في الحكومة السورية آنذاك، وشرح له معوقات المشروع، التي تتلخص بالفساد والانغلاق التجاري وسوء البنية التحتية والإدارية لمرفأي اللاذقية وطرطوس، واقترح الحلول لتجاوزها. وينص المشروع على إقامة مناطق تجارية حرة في كل من اللاذقية وطرطوس ودمشق وحلب والحسكة، وربطهم بالطرق الدولية الثلاثة التي تمرّ بسورية:
– طريق الموصل- حلب إلى المتوسط
– طريق بغداد- حمص- دمشق.
– طريق باب الهوى شمالا نصيب جنوبا.
وبين للمسؤول الحكومي بأن هذا المشروع لو نفذ كما يجب، فإن سورية ستصل إلى حجم تبادل تجاري ربّما يساوي حجم التبادل التجاري لدبي أو يزيد، وستصبح المنطقتان دبي وسوريا مكملتين لبعضهما، فدبي تغطي التواصل برًا وبحرًا مع شرق ووسط إفريقيا، وشرق ووسط آسيا والخليج العربي، وبلاد بحر قزوين وشرق أوربا، وسورية تغطي دول البحر المتوسط العربية والأوربية ودول غرب إفريقيا، وغرب وشمال أوربا ودول البحر الأسود، والخليج العربي.. وهذا يمنح المنطقتين تكاملًا في خطوط الملاحة البحرية والبرية.
وبناء على ذلك سيتحسن الاقتصاد السوري أضعافًا، وسترتفع قيمة الليرة السورية، وسيوفر ملايين فرص العمل للسوريين، بدخول تتراوح بين المتوسطة والممتازة. إنه طريق الحرير الذي برع فيه السوريون قبل مئات السنين، ولكن بصيغة حديثة، فالسوريون أهل تجارة وحرف وخدمات وهذه بضاعتهم وسر عظمتهم. هذا ملخص المشروع الذي عرضه الكاتب بخرائطه وخططه وطرق تنفيذه ومعوقاته، لكنه قوبل بالتجاهل والإهمال، فليس لدى الحكومة السورية النيّة للقيام بمشاريع عملاقة تنهض بالسوريين وتوحدهم، وتحصنهم ضد الأخطار الداخلية والخارجية، فهذا ليس ضمن حساباتها.
مناطق الميثاق
بعد أن وصل حال سورية إلى اللاعودة إلى ما قبل 2011، وعدم وجود الإمكانيات لتشكيل نظام موازٍ يجمع شملَ الجغرافيا السورية، التي تفتت إلى مناطق منفصلة لكلّ منطقة وقائع مختلفة عن الأخرى، كالنجوم المتفرقة كلّ نجمٍ يحترق بمفرده، لكنها تشترك في الرغبة في وقف الموت، وتحقيق الأمن والتنمية والحياة اللائقة. بحث الكاتب مع خبراء عن حلول تعمل على الاستشفاء الذاتي، بحيث يتم النهوض الاقتصادي والاجتماعي والأمني نهوضًا ذاتيًا، لا يفرض على أبناء المناطق التي عانت ما عانت، ولا يستغني بطبيعة الحال عن دعم المجتمع الدولي، فتبنى الكاتب ورجل الاقتصاد غسان عبود مع بعض الخبراء مشروع “مناطق الميثاق”، أسوة باقتراح “مدن الميثاق” لرجل الاقتصاد (بول رومر)، ويهدف المشروع إلى وقف تخريب البنى الاجتماعية السورية، وحفظ دماء السوريين، وخلق طرق اقتصاديةٍ محليةٍ، تؤمن وتنظم معيشة من تبقى من السكان، وذلك عبر إدارةٍ محليةٍ من أهل المنطقة حصرًا، يحكمون الناس حكمًا رشيدًا عبر مواثيق خاصة لكلّ منطقة، على ألا تتضارب مع مواثيق الأمم المتحدة وشرائعها.
ويقع على عاتق الدول المهتمة والإقليمية (تركيا إسرائيل دول الخليج) توفير بيئةٍ صديقةٍ آمنةٍ، وتوفير الموارد للمجتمعات المحلية للقيام بمشاريع تنمويةٍ حسب احتياجاتهم، لخلق نموذج اقتصادي وتنموي ناجح يُقتدى به من باقي المناطق لاحقًا، يركز على الأنشطة الأساسية والحيوية لاستعادة السلم الأهلي، والبدء بعملية الاستشفاء التدريجي قبل البدء بأي عمل سياسي.
ووضع الكاتب المحددات الأساسية لبناء الاستقرار، وتتلخص بالاعتماد على القبيلة لأهمية دورها في لم شمل المجتمع وحمايته من التطرّف، وأكد على حماية المعتقدات وعدم المساس بها، والابتعاد عن خلق ثنائيات استقطابيّة تشتت المجتمع. ويمرّ المشروع بمراحل: مرحلة المسح وبيان قاعدة البيانات اللازمة- مرحلة بناء المجلس المحلي- مرحلة تمكين المجلس المحلي- مرحلة حفظ الأمن.
وبما أنّه من الصعب تطبيق هذا النموذج على مناطق مثل الجزيرة السورية، بسبب عدم تجانس الكتل السكنية في الوقت الحالي، والاختلاف في التكوين الاجتماعي بين الكرد والعرب، فقد ركّزت اللجنة على محافظة إدلب ومنطقة حلب غير الخاضعة للنظام، ومنطقة درعا والقنيطرة. وشرح الكاتب الأسس التي يجب أن تقام عليها، والفئات التي يمكن أن تقوم بكلّ مهمة. وبين مردودها على الدول المجاورة، ودور تلك الدول في تنفيذ هذا المشروع. ولكن المشروع لم يكتب له النجاح كسابقه؛ لأن المناطق التي أراد الخبراء تطبيق النموذج عليها (جنوب وشرق إدلب، ودرعا)، قد سقطت بيد النظام، وعادت إلى الحكم المركزي في دمشق.
تلك أبرز المحاور التي وردت في كتاب الحلم السوري، من وجهة نظر شخصية، وهي لا تغني عن مراجعة الكتاب، لما فيه من قراءة عميقة للأحداث، وتحليل لمواقف الدول، واستشراف نتائجها التي بدأنا نلمس تحققها على الأرض، كما يبعث الكتاب -على عكس ما كتب عن سورية- الهمة ويوقظ العزيمة، ويلفت لمواطن القوة وطرق تعزيزها في الدولة والمجتمع، ونواحي الضعف وطرق علاجها ورتقها، بعيدًا عن الانقسامات الطائفية والأمراض العرقية، كلّ ذلك بأسلوب المحلل الذي يستحضر تجارب التاريخ من ناحية، وتجارب الدول المعاصرة من ناحية ثانية، وإمكانيات شعبنا وثروات بلدنا من ناحية ثالثة، مع التنبيه دائمًا إلى بناء علاقات صحية مع دول الجوار، ودول القرار قائمة على تتبع المصالح وتجنب الضرر.
_________________________________________
من مقالات العدد السابع عشر من (العربي القديم) الخاص بتلفزيون أورينت – تشرين الثاني/ نوفمبر 2024