مقامات أمريكية | طوبى للمكوّعين
في الواقع لا يمكننا تخيل العالم اليوم لو أنه استمرّ على دينه السابق
د. حسام عتال
تتحفظ إدارة تحرير (العربي القديم) على مقاربة الكاتب لحالة عمر بن الخطاب في سياق الموضوع. فإذا كان يُقصد بالتكويع هو الانتقال إلى صف الحق بعد التأكد أن الباطل الذي كنت تصفق له وتدافع عنه قد انهزم تماماً، فإن عمر بن الخطاب أسلم في عز ضعف الإسلام واضطهاد من اتبعوا رسالته، ولم ينتظر حتى ينتصر المسلمون كي يعلن إسلامه… وعندما أراد أن يهاجر إلى يثرب فعل ذلك على رؤوس الأشهاد وقال مقولته الشهيرة: “من أراد أن يثكل أمه أو يرمل زوجته أو ييتم ولده فليلْقني وراء هذا الوادي” وتعتبر أن وضعه في سياق هذه الأمثلة عن هذه الظاهرة تاريخياً، هو اجتهاد غير موفق (العربي القديم).
***
تقع طرسوس في تركيا، وتبعد ١٨٠ كم عن حدود سوريا بين أضنة ومرسين، وهي مدينة مفعمة بتاريخ يعود لأكثر من سبعة آلاف سنة. في زيارة لها الأسبوع الماضي وجدت البوابة التي عبرت تحتها كليوباترا، ومقام دانيال عليه السلام النبي (الذي شهد تخريب القدس على يد الملك الفارسي بختنصر)، ورأيت طريقاً رومانياً يقال أنه قد مشى عليه أشخاص مثل سيسرو، وقيصر، واوغسطس، ونسطور وغيرهم. لكن أشهر شخصيات المدينة دون منازع هو القديس بولس الرسول، الذي ولد باسم شاول، ونشأ فيها حين كانت مركزاً للعلم والثقافة والتهذيب الفلسفي والديني في عصره.
والقديس بولس الرسول هو أشهر من “كوّع” باستخدام التعبير الدارج في يومنا هذا لوصف من أخذ انعطافا حاداً مفاجئاً، غيّر فيه معتقداته وأفكاره أو أسلوب حياته. بولس كان من اليهود ويملك نفوذاً عالياً في السنهدريم بين القادة من سبط بنيامين. وعرف بأنه من أَلَدّ أعداء الكنيسة الأولية يعذب المسيحيين ويسجنهم وينكل بهم ويقتلهم. حتى جاء يومٌ كان في طريقه إلى دمشق عندما أبرَقَ حوله نور عظيم من السماء، فخرّ على الأرض، ورأى المسيح المصلوب مرأى العين، وتحقق فوراً أن يسوع هو ابن الله الحي. فانقلب متخلياً عن معتقده القديم، مؤمناً بالمسيحية، وعاش يردد ويوضح اقتناعه الجديد متنقلاً بين مدن القدس وقيصرية وغيرهما، ثم عاد إلى طرسوس مسقط رأسه مرة أخرى حيث أسس الكنيسة المسيحية في كيليكيا.
ومن هناك بدأ رحلات أخرى تبشيرية في البلقان وإيطاليا وإسبانيا، خلالها كتب رسائله الشهيرة (مثل غلاطية وثيموناس وأهل كورنثوس ورومية، وبقية الرسالات) وفيها ناقش أفكار كثير من المسيحيين الأوليين مثيراً الجدل بين العنصر اليهودي والأممي في الكنيسة، ونعرف عن أفكاره أيضاً من مباحثاته مع بطرس وبرنابا بسبب خلافه مع يوحنا مرقس، فهو لم يترك حجراً إلا قلبه كما يقول المثل. وهكذا ناضل إلى آخر أيامه حتى ساد فكره على فكر معارضيه، لدرجة أن كثيراِ من الأكاديميين الغربيين اليوم يسمون المسيحية التي نعرفها اليوم بمسيحية بولس، وهذا تقدير عظيم له. أخيراً سجن في روما سنة ثم استشهد سنة ٦٧ (أو ٦٨ حسب المصدر). واليوم كنا سنرى النتائج الجسيمة التي حلّت بالبشرية جمعاء (وليس بالمسيحيين فقط) لولا “تكويع” القديس بولس الرسول. في الواقع لا يمكننا تخيل العالم اليوم لو أنه استمرّ على دينه السابق وظلّ يعذب ويقتل المسيحيين، من المؤكد أن العالم كان مختلفاً عن الذي نعيش به.
ومن المكوعين ممن غيروا التاريخ سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي، عندما دخل دار الأرقم باغياً قتل أخته التي أسلمت، سمع كلمات من سوره طه، فنطق فوراً بالشهادتين وأعزه الله وأعزّ به الإسلام.
وممن كوّعوا بغتة هو إمبراطور اليابان ميجي الذي عندما رأى مركباً أمريكياً رسى على شاطئ اليابان وأعجب بقوته وبتقنية صنعه، قرر لحظتها التخلي عن النظام الياباني الاقطاعي رغم المعارضة الشديدة من التقليديين الساموراي، قاتلهم حتى قضى عليهم ، وبدأ ببناء المدارس مدخلاً العلم الحديث، فنقل اليابان خلال سنين قليلة إلى مصاف أقوى دول العالم وأكثرها تقدماً. هو الرجل الذي قال ” لو وزعنا ألف كيس رز لأكلها الناس، ولكن لو بنينا ألف مدرسة لاستطاع الناس حصاد مائة ألفاً من أكياس الرز”.
وهناك بطرس الأكبر قيصر روسيا الذي كوّع بعد رحلة إلى أوروبا (كان متخفياً فيها تحت اسم الرقيب بيوتر ميخائيلوڤ حاملاً معه خاتماً كتب عليه “أنا طالب أبحث عن معلمين كي أتعلم”). في هذه الرحلة اطلع على الفرق الشاسع بيت تقدم دول أوروبا بالمقارنة مع روسيا، رأى خصوبة أراضي ليڤونيا، وقوة مدافع براندنبورغ، وتقدم طب ألمانيا، وضخامة أحواض صناعة سفن أسطول بريطانيا، وانتشار تجارة هولندا، وصناعة الورق في إيطاليا، فعاد لبلده شخصاً جديداً وقام بإصلاحات اقتصادية وعلميّة وثقافية ومعمارية رغم معارضة الكنيسة الشديدة له، وبذلك جعل من روسيا دولة عظمى. وكان يعرف باهتمامه بالشكل والذوق إضافةً للمضمون، فأمر حاشيته بحلق ذقونهم (وبالفعل حلق بيده ذقون أولئك الذين رفضوا مدّعين أن اللحى مقدسة دينياً)، وفرض على الحاشية لبس الثياب الأوروبية (المجرية في الصباح والفرنسية في المساء).
والناس العادية تكوّع دائماً. في طرسوس، ولأني فضولي وحشري، دخلت بيوت أناساً عاديين مازالوا يصلحونها من تخريب زلزال عام ٢٠٢٢ (بعد نقر الباب طبعاً).
معظم الناس لطيفة ويسعدون عندما تظهر اهتماماً بشؤونهم وهموم حياتهم، أحدهم سمح لي بتصوير رسمة قديمة لوالده الراحل ووالدته الجميلة، يقفان معاً بحب واضح (الصورة المرفقة أُخِذتْ بعد إذن). عندما سألت الابن عن مهنته والده أجابني “عمل في كل شيء، وكان يغيّر عمله طول الوقت، يمكن القول أنه كان ناجحاً بالعموم.” ثم صبّ لي كوباً من الشاي التركي الثقيل.
جورج برنارد شو قال “التقدم مستحيل دون تغيير، وأولئك الذين لا يستطيعون تغيير عقلهم لا يستطيعون فعل أي شيء”. دعونا نرحب المتغيرين المكوّعين الجدد، فالقبول والسماحة والعفو إن لم تكن في أخلاقنا وقيمنا، فهي في النهاية لمصلحتنا. طوبى للمكوّعين.