عقائد وأديان

العلمانية بين الإسلام والمسيحية

موقف الإسلام والمسيحية من العلمانية يتفاوت في جوهره بناءً على النظرة إلى دور الدين في الحياة العامة

عبد الرحمن الناصر- العربي القديم

ليس خفياً على أحد أن العلمانية تتصادم وجها لوجه مع الإسلام وتعاليمه، فرفض الإسلام للعلمانية يعتمد على أدلة شرعية تؤكد أنه دينٌ شامل يغطي جميع جوانب الحياة، بما في ذلك السياسة والحكم، وأن الفصل بين الدين والدولة يتناقض مع مبادئ الإسلام الأساسية.

فهو دين شمولي، أي يوجه حياة المسلم بالكامل، ولا يقتصر على الأمور التعبدية فقط، بل يشمل جميع شؤون الحياة، مما ينافي العلمانية التي تفصل بين الدين والحياة العامة. الإسلام لا يعتبر الدين شيئاً منفصلاً عن شؤون المجتمع والسياسة، بل يراه نظاماً متكاملاً، والالتزام به يعني أن يسود في جميع المجالات.

يقول الله تعالى:

“قُل إِنَّ صَلَاتِي ونُسُكي ومَحيَايَ ومَمَاتي لله رَبِّ العالمِين” (الأنعام: 162).

هذه الآية تعكس أن كل جوانب حياة المسلم يجب أن تكون موجهة نحو الله، ما يرفض التقسيم الذي تفرضه العلمانية بين ما هو ديني وما هو دنيوي.

وفي وجوب اتباع المنهج القرآني بالكامل، يأمر الإسلام باتباع الشريعة المحمدية كاملة ويدعو للابتعاد عن كل منهج يخالفها، ولا يرضى بما تدعو له العلمانية من حصر الحياة الدينية داخل دور العبادة والمساجد أو في البيوت ويستنكر أشد الاستنكار، أي محاولة لفصل الدين أو تجزئته، كالعلمانية التي تقبل الدين في نطاق العبادات الفردية (مثل الصلاة والصيام)، وتستبعده من مجالات الحياة الأخرى مثل الحكم والتشريع. وهذا يتعارض مع الإسلام الذي يعتبر نظام حياة شامل.

يقول تعالى: “أَفَتُؤمِنُونَ بِبَعضِ الكِتابِ وَتَكفُرُونَ بِبَعضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفعَلُ ذَلِكَ مِنكُم إِلَّا خِزيٞ فِي الحَيَوةِ. الدُّنيَا ويَومَ القِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعمَلُونَ»* (البقرة: 85).

يقول الله تعالى: “ثُمَّ جَعَلنَكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمرِ فَاتَّبِعهَا ولا تَتَّبِع أَهوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعلَمُونَ” (الجاثية: 18). والقبول بأي شكل من الأشكال بترك جانب من جوانب الدين يعتبر ردة عنه.

يقول الله تعالى: “وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فأولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ” (المائدة: 44). ويلخص سيد قطب، رحمه الله، ما سبق في كتابه “الإسلام ومشكلات الحضارة” بقوله:

“إن الفقه الإسلامي ليس منفصلاً عن الشريعة الإسلامية…. والشريعة الإسلامية ليست منفصلة عن العقيدة الإسلامية… والفقه والشريعة والعقيدة ونظام الحياة كل لا يتجزأ في التصور الإسلامي” (ص: 194).

هذا بالنسبة للإسلام، فما هي نظرة المسيحية للعلمانية؟

رغم أن العلمانية ظهرت في الغرب كردة فعل على الهيمنة الكنسية في أوروبا، إلا أنها لم تكن بسبب وجود شريعة مسيحية تفصيلية، بل نتيجة لتحول الكنيسة إلى مؤسسة سياسية واقتصادية واجتماعية استغلت سلطتها الروحية لفرض نفوذها. هذا التداخل بين الدين والسياسة هو ما أثار الثورة ضد الكنيسة فيما يسمى “عصر التنوير”، وليس تعاليم المسيحية بحد ذاتها. تدخل الكنيسة بالشؤون العامة “الدنيوية” بدأ مع غياب السلطة المركزية المدنية الذي نتج عن تفكك الإمبراطورية الرومانية، فاستغلت ذلك أو أجبرت الكنيسة على ملء الفراغ وعدم الاكتفاء بالدور الروحي، فأسست القوانين الكنسية “Canon Law” لتنظيم شؤون الزواج والإرث وبعض المعاملات الاجتماعية. فحين التدقيق في نصوص الإنجيل لا نجد أي دليل على وجوب اتباع أي شرع، بل هذا الأمر متروك للناس كما سنرى فيما يلي:

يرِد في العهد الجديد على لسان يسوع المسيح ما يشير إلى ضرورة الفصل بين الواجبات الدينية والواجبات المدنية:

“أعطوا إذًا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” (إنجيل متى 22:21).

ويؤكد المسيح أن رسالته ليست لإقامة مملكة دنيوية، بل روحية:

“مملكتي ليست من هذا العالم” (إنجيل يوحنا 18:36).

إن صلب يسوع وموته، في الاعتقاد المسيحي، قد خلّص المؤمنين به من الإدانة التي تأتي من الناموس (شريعة موسى) التي يتضمنها العهد القديم من “الكتاب المقدس”، وتُعتبر هذه الفكرة أحد المحاور الرئيسية في اللاهوت المسيحي، وخاصة في كتابات الرسول بولس.

فالمسيحية تعتقد أن الناموس (شريعة موسى) كان ضروريًا لبيان خطيئة البشر، ولكن موت المسيح وفداءه على الصليب أتم الناموس وحرر المؤمنين من دينونة الخطيئة التي جاء بها الناموس.

“فإن غاية الناموس هي المسيح للبر لكل من يؤمن” (رومية 10:4).

“المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ أصبح لعنة لأجلنا” (غلاطية 3:13).

يبين هذا النص أن المسيح بموته حمل لعنة الناموس بدلاً من “المؤمنين به”. ويؤكد بولس أن التبرير والخلاص لا يأتي من تطبيق الشريعة، بل من الإيمان بالمسيح فقط:

“إذ نعلم أن الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس، بل بإيمان يسوع المسيح، آمنا نحن أيضًا بيسوع المسيح لنتبرر بإيمان المسيح لا بأعمال الناموس، لأنه بأعمال الناموس لا يتبرر جسد ما” (غلاطية 2:16).

ويضيف: “إذًا لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع، السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح” (رومية 8:1).

فروقات يجب أخذها بعين الاعتبار

إذن تبين لنا فيما سبق أن العلمانية إن لم تكن مطلباً مسيحياً، وهي كذلك لا تتعارض نهائيا معها.

وحين ادعاء طرح العلمانية نفسها أنها تقف على مسافة واحدة من جميع الديانات يجب الأخذ بالاعتبار الفروقات التي تتضمنها مختلف الأديان والمذاهب المتواجدة سويا في بلد ما.

في مفهوم أن تقف الدولة على الحياد من الأديان، يستوجب منها أن تستوعب الجميع وتمنحهم بلا استثناء، كامل حقوقهم. إذ يمكن اتباع قانونين مختلفين: أحدهما “شرعي إسلامي” يحتكم إليه المسلمون، وآخر وضعي يحتكم إليه غيرهم، وهكذا فقط يمكننا أن نقول إن الدولة تقف على مسافة واحدة وعلى الحياد من جميع الأديان.

وهذا أصلاً ليس حالة شاذة لم تحدث على مر التاريخ، بل حدثت فعلاً مع النبي الأعظم محمد – صلى الله عليه وسلم- عندما عرض بعض اليهود عليه أن يحكم لهم في بعض قضاياهم، فخيره الله تعالى بين الحكم بينهم أو تركهم يحتكمون إلى شرائعهم. يقول تعالى في سورة المائدة:

“فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۖ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا ۖ وَإِنْ حَكَمْتَ فَحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” (الآية 42-43).

فالشريعة الإسلامية لا ترغم أصحاب الديانات الأخرى على أن يحتكموا إليها كما رأينا مؤخرًا، ويؤيد هذا ما جاء في صحيفة المدينة: “لليهود دينهم وللمسلمين دينهم” إذ يقر هذا البند حرية العقيدة الدينية، حيث يتبنى اليهود شريعتهم وممارساتهم الدينية، وكذلك المسلمون.

ولا يقتصر ذلك على قوانين الأحكام الشخصية، كما تقرر ذلك العلمانية في يومنا، بل حتى بالأحكام الجنائية كما قرر ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في الحكم على بني قريظة، فجاء هذا الحكم متوافقًا مع أحكام التوراة التي كان يلتزم بها اليهود في مثل هذه الحالات، وأقرها وقضى لهم بها النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-.

قابلة للتطبيق بشرط!

موقف الإسلام والمسيحية من العلمانية يتفاوت في جوهره بناءً على النظرة إلى دور الدين في الحياة العامة. في الإسلام يُعتبر الدين شاملا يغطّي كل جوانب الحياة، بينما في المسيحية يمكن للعلمانية أن تتواجد دون تعارض، حيث يُفصل بين الواجبات الروحية والدنيوية. من هذا المنطلق، يمكن القول إن العلمانية قد تكون قابلة للتطبيق في مجتمعات دينية شريطة احترام تنوع المعتقدات وحقوق الأفراد الدينية، مما يتطلب سياسات منفتحة تعكس التنوع الديني والثقافي في المجتمع بدون التعدي على الحريات الدينية لأي طرف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى