التاريخ السوري

يوم إسقاط التماثيل.. دُفن الأبـد

كان إسقاط التماثيل وتمزيق الصور بمثابة إعلان تحرير، أو بيان رقم واحد

صالح الحاج صالح – العربي القديم

  ربما كان ذلك عام 2007  عندما دخلت غرفة المدير العام لمؤسسة حوض الفرات برفقة رئيس منظة شعبية سابق كان له حضور مهم في المحافظة، وبعد إزاحته من منصبه الذي شغله لفترة طويلة قدم خبرته بدهاليز الدوائر الرسمية ومفاتيحها لمن احتاجها من الأصدقاء والمعارف للحصول على مستحقٍ تعذّر الوصول إليه بالطرق الإدارية العادية.. كان وقتها لزوجتي بدل تعويض عن خدمتها في المؤسسة لقاء استقالتها، لم تحصل عليه رغم محاولات عديدة.  

بعد السلام والترحيب انشغل الرجلان مباشرةً بما بينهما من ذكريات مشتركة ومجد سلطة شغلاها. تعاتبا بجمل شائعة رغم نبرة تشاوف ملحوظة من قبل من بقي فيها على من غادرها.

نمّو ـ من نميمة – وعابوا على موظفين ومدراء آخرين، تحدثوا عن هموم سلطة جمعتهم، واشتكى مضيفنا من متاعبها، ولم يفته تهنئة صاحبه لخلاصه من همومها! راحوا بعيداً عني وعن حاجتي.. يهمسون لبعضهم، أسمع طرف حديثٍ يُبتر بخفض الصوت عندما ترمقني عين احدهم وفيها تساؤل إن سمعت أو أدركت شيئاً  من حديثهم.. نسوني تماماً .

ولكي أزجي الوقت- كما يقال- انشغلت، بما يلفت نظر كل من يلج غرفة المدير العام بعدد صور وتماثيل العائلة الحاكمة، غرفة بأبعاد 10متر ×  6 تقريباً تشغل جزء منها طاولة  للاجتماعات.

عددت 15  صورة فوتوغرافية وصور نافرة وتمثال موزعة في أنحاء الغرفة وعلى حيطانها وفوق خزن الأضابير والملفات. أفراد العائلة جميعهم حاضرون في غرفة المدير العام، حضورطاغ ومبتذل. كاتمٌ للنفس.. فضاءٌ سوري مصغر..  صورٌ مفردة وثنائية وثلاثية، وصورة واحدة تجمع جميع أفراد العائلة، الأب والأم والإبنة وأربعة أبناء.. للأب النصيب الأكبر بعدد الصور، منها صورة مجسمة نافرة  خلفيتها مخمل اخضر ضمن برواز، وله تمثال نصفي ذهبي اللون  بالحجم الطبيعي على قاعدة يملأ إحدى زوايا الغرفة ويطل على الداخلين إليها. صور الوريث تحتل المرتبة الثانية بالعدد، وله أكبر صورة من بين الصور، صورة تُظهره بكامل جسده التقطت له وهو يمشي لحظة تصويب نظره للأسفل، نحو الأرض، لاينظر للكاميرا وكأنها غافلته ليبدو في الصورة رجل خالي البال وكل همه النظر إلى المكان الذي ستطأه قدماه. الصورة معلقة على الجدار فوق مكان جلوس المدير العام.

وصورة أخرى للوريث يظهر فيها المدير العام إلى جانبه، صورة أرادها المدير العام أن تعطي انطباع أنه شخص مهم ومحمي، فأختار لها مكان يلحظها كل من يدخل الغرفة .

الأخ “الشهيد ” له صورة يبدو فيها كنجم سينمائي مذيلة بكلمة ” كلنا باسل “، وصورة تجمعه مع أبيه وأخيه الوريث، وله تمثال على ظهر حصان قافز متجه نحو مجسّم للكرة الأرضية في الطرف الأخر من سطح خزانة خشبية مخصصة للكتب ،استطعت من موقعي قراءة بعض عناوينها، اليوبيل الذهبي لثانوية جول جمال الرسمية،سلسلة مجلدات للتثقيف الحزبي، وثائق المؤتمر الثامن لحزب البعث كتاب لزكي الأرسوزي أو عنه ولاحت من بين الكتب رواية  “ذاكرة جسد “لأحلام مستغانمي، صراحةً لم استغرب ذلك!!..على القاعدة المثبت عليها الحصان القافز وفارسه مكتوب” الكليشة المعتادة ” بلون أسود على صفيح ذهبي : الرائد الركن المهندس المظلي الفارس الذهبي الشهيد باسل حافظ الأسد.

بداية ً شككت بنفسي بأنه من غير المعقول أن يكون عدد صور لأشخاص بعينهم 15  صورة في غرفة لموظف حكومي، وليست غرفة في معرضٍ للصور؛ ولكي أتأكد عددتها عدّاً زوجياً..زادت زوجاً. اعدت العدّ فرداً وزوجياً؛ فكانت بالضبط خمسة عشر صورة وتمثال ومجسم نافر بالتمام والكمال، عندها خطرت ببالي التقفيلة التي  راجت في مرحلة ثمانينيات القرن الماضي التي تقول : ألقت دورية أمن على عامل نظافة بعد احدى المسيرات الحماسية الممجدة بحياة الرئيس، لأنه كان يتأفف مبدياً عجزه بلم الصور واللافتات والشعارات التي أزالت قسم منها زخة مطر، وخوفه من الاقتراب منها أو تكنيسها ( شو يلمهن ..وشولون بدي ألمهن ) .  حتى أصبحت جملة عامل النظافة ( شو يلمهن ) تعليق ساخر يتررد على الألسنة همساً كلما وقعت الأعين كم الصور المعلقة والمطروشة بكل مكان.  

بعد 54 سنة من حكم العائلة منها 24 عاماً من حكم الوريث، عرفت إجابة السؤال المهموس به سراً ولُمّت الصور وطوِّحت التماثيل وأُزيلت الشعارات والأقوال من الفضاء العام بظرف  24 ساعة.

صور وتماثيل العائلة لم يقتصر وجودها في الحيز العام، بل كانت داخل البيوت، حلّت مكان صور الآباء والأجداد والغيّاب، بعض ذاك الإحلال نفاقاً وتقية، وآخَره انتماءً ولاءً وسلطة. صور العائلة الأسدية وتماثيلهم الصغيرة سهرت مع أهل البيوت وساكنيها، يشاهدونها طيلة يومهم لتذكرهم بوجودها الدائم، وتحميهم من أنفسهم ونوايا سيئة قد تدور في بال أحدهم، كصور الأخ الأكبر في رواية أورويل.. صور الأب والوريث طبعت على دفاتر طلاب المدارس وجلاءاتهم، على فولار طلاب الابتدائي. وزيّنت بها صفوف المدارس والجامعات، صورة الأب القائد موضعها الدائم فوق السبورة أمام الطلاب، لا توجد سبورة في طول البلاد وعرضها إلا وتعتليها صورة ” المعلم الأول، الأب القائد ” خاصة النسخة المدرسية منها، الممهورة بقولً لحافظ الأسد (.. الشباب أمل الحاضر في المستقبل وأمل المستقبل بالحاضر..). صور الأب والوريث على دفاتر البطاقات التموينية وعلى العملة الوطنية المتداولة، ذات الفئات العالية؛ فمن الفطنة أن لا توضع صورة فرد من العائلة على وحدة نقد دنيا. بمناسبة مرور 25  عام على قيام الحركة التصحيحية اصدر مصرف سوريا المركزي عملة معدنية باطار ذهبي وقلب فضي تحمل صورة حافظ الأسد، وأخرى عملة ذهبية سكها المصرف المركزي عليها وجه حافظ الأسد بين سنبلتي قمح (رئيس الجمهورية الفريق حافظ الأسد  1970-2000 ) بينما نقابة الصاغة أصدرت ليرة ذهبية بوزن  8غرام بمناسبة الاستحقاق الرئاسي 2021 تحمل بورتريه لوجه بشار الأسد.. في الكتب المدرسية دونت فقرات لأقوال أفراد العائلة ومنجزاتهم وسير حياتهم، وعن العبقرية التي يتمتعون بها أيام الحرب والسلم، ووضعت نصوص مطولة من خطب ٍألقوها، مطلوب حفظها من قبل الطلاب ليمتحنوا بها.

 

على  زجاج السيارات الخاصة والعامة وسيارات الجيش انتشرت طبعة خاصة يظهر فيها أفراد العائلة من الذكور، مجتمعين أو فرادى مع عبارة  (هكذا تنظر الأسود).

 في كل زاوية وغرفة وجدار بالدوائر الرسمية  تنتشر صور ذكور العائلة، حتى تراكمت فوق بعضها على حيطان مداخل الدوائر الرسمية وفي ممراتها كنعوات الموتى، لا تمس ولا تزال حتى إذا مُحَت ألوانها وعلاها الغبار..من يجرؤ ؟

 في غرف الموظفين والمدراء تنتشر الصور بكثافة، منها داخل براويز أنيقة ومكلفة، وأخرى على الحيطان الداخلية فوق مكاتب الموظفين. بورتريهات وجوه العائلة  أُلصقت على زجاج خزن الأوراق والأضابير وتحت زجاج طاولات المكاتب، وهنا أيضاً صورة لحافظ مخصصة للمكاتب الحكومية – وإن لم يقتصر عليها- حيث يظهر فيها جالساً وراء طاولة، يداه تستندان على سطحها وضحكته تكشف عن سنٍ ذهبي داخل فمه ..  صور وصور وبورتريهات لكل أفراد العائلة بملابس عسكرية وأخرى مدنية ورياضية لتلبية جميع الأذواق؛ فأي بورتريه يختاره الأخ المواطن سواء كان للأب أم الوريث، للشقيق، للعم رفعت-حتى بعد طرده؛ فهو خيار جيد لا تثريب فيه.

كل قادم  إلى سورية، براً، بحراً، جوا،ً ستكون أول  مشاهداته صور حافظ وبشار وباسل قبل أن يرى علم الدولة أو مايشير إليها مثل اللوحة التنبيهيه التي تقول : مرحباً بكم في  الجمهورية العربية السورية، وإن صدف ووجدت تلك اللوحة / القارمة  ستكون عبارة الترحيب محصورة بين صورتين لحافظ الأسد و/أو أبناءه. لتتوالى  بعد ذلك اللوحات المرحبة  بالقادمين في سوريا الأسد.

أما الجمالية الأسدية الكبرى التي يقف أماها المرء حائراً، ولن يجد لها تفسيراً أو غاية مهما اجتهد، عندما يسير بجانب جدار يحيط بمدرسة، مستودع، منشاة مدنية او عسكرية يمتد لمئات الأمتار سيجد مطبوعاً عليه بورتريه حافظ أو أحد أبنائه باستخدام بخاخ البويا “الجرافيتي ” صورة واحدة تتكرر ألاف المرات ترافق السائر في كل خطوة يخطوها، تسير معه، تتبعه وتلحق به، مثلما تلحقه أصوات الأغاني الممجدة للقائد والحزب أيام “الأعراس الوطنية” التي تبث عبر مكبرات الصوت إلى بيته وداخل غرف النوم على مدار أسابيع.

في ساحات المدن  والبلدات زرعت تماثيل العائلة في سباقٍ محموم بين مسؤولي المحافظات لإثبات الولاء، تماثيل تشابهت في غايتها لتكرس فكرة، أن القائد سواء كان ملوحا ًبيده من فوق تلة للمارين أمام ناظريه على الطرقات، أو منتصباً في ساحة مطلاً على جماهيره مرتدياً عباءة الزعيم العشائري، أو فلاحاً مشمراً عن ساعديه أو منحوتاٍ على هيئة مفكر جالساً على كرسي ويداه على المسندين مباعداً بين رجليه، أوعسكرياً بقبعة تميل على جنب؛ فهو في كل حالاته الرجل الإستثنائي باني سورية الحديثة..هو الطوطم الذي يُعْبد ويُحتمى به.  

هذا الوجود الطاغي لصور العائلة وتماثيلها وأقوالها لم يقتصر على الجهات الحكومية والرسمية، والمنظمات الشعبية والحزبية، وداخل البيوت، بل انداح ليستخدم بمكر ويستثمر من قبل الناس، فمن أراد التعدي على أرض مشاع  بنى جداراً ووضع عليه صورة حافظ أو وريثه، ومن أراد قرضاً مستعجلاً لمنشأة حقيقية أو وهمية، أطلق اسم أحد أفراد العائلة على منشأته. تحايل الناس على البلديات للحصول على خدمة نظافة واهتمام أكثر لحيّهم بزرع تمثال نصفي لحافظ من الجبس على تقاطع شارعين – راج لهذا الغرض في تسعينيات القرن الماضي ورش لصب نسخة تمثال نصفي لحافظ الأسد من الجبصين- هذه النسخة فرضت على المنظمات الشعبية والفرق الحزبية والبلديات الصغيرة، وزرعت في بهو المديرايات والمؤسسات الحكومية، وفي مداخل الكراجات، اقتناها أصحاب المطاعم المفتوحة والمقاهي وبعض الفنادق والمحلات التجارية ومعاهد الدروس الخصوصية – كتميمة وحرز – وعلى مايبدو هذا التزلف كان مقبولاً من الجهات الأمنية التي لم تمانع أو تحتج على هذا الاستخدام المبتذل مادامت الغاية تجلب حماية نوعاً ما أوالتهرب من مخالفة أو الحصول على منفعه جانبية مثمرة للطرفين تتم بغطاء الولاء والتقديس وتسهم ابقاء وجوه العائلة أينما اندارت الأعين.

بعد انتشار استخدام الموبايل تتفاجأ بصوت حافظ الأسد يخطب “الوطن غالي، والوطن عزيز، والوطن شامخ والوطن صامد، لأن الوطن هو ذاتنا!” أو “إنني أريد الجولان بالكامل وإنني أريد سيناء بالكامل” منبعثاً من موبايل زميل في الوظيفة أو جار في مطعم أو مقهى. في الشارع  تسمع حافظ يخطب، وفي زحمة وسائل النقل العام، تنبعث أغنية (بشار شعبك والله شعبك اختار، بالروح يفديك ويل اللي يعاديك..) حتي أن شركة “سيرياتيل” المحتكرة لخدمة الهاتف النقال قدمت مقاطع من خطب حافظ وبشار هدية مجانية لمشتركيها كرنة موبايل.

أسماء مدن وضواحي وجامعات وجوامع، حدائق وغابات، مدارس ومشافي، شوارع ومزارع، أندية رياضية وصالات أعراس، أكشاك وأفران، معاهد دينية وأمكان ترفيه سميت باسم العائلة، حتى أن بعض العائلات سمت كل أبنائها على أسماء أبناء حافظ  بالترتيب، لتبلغ الذروة في ذلك إلى احلال اسم العائلة بديلاً كاملاً  عن وجود سورية، بشعبها وأرضها ومائها وهوائها وتصبح “سوريا الأسد”. استحواذ بدء به منذ وصول الأب إلى السلطة وطيلة فترة حكمه وحكم الوريث، وكل يوم طيلة 54  سنة كرس جهد ووقت، بالترهيب والترغيب للمطابقة بين شرعية الدولة وشرعية العائلة، لتصل هذه المطابقة لحد المماهاة التامة ويولد عنها “الظاهرة الأسدية” ظاهرة اختصت بها سوريا دون غيرها  من الدكتاتوريات، ولا يشبهها في ذلك إلا الحالة الكورية، الظاهرة الأسدية نزعت عباءة عبادة الفرد/ الدكتاتور لتكرس “عبادة العائلة”. الدكتاتور في الظاهرة الأسدية العائلة بأكملها، أقوال أفراد العائلة ملزمة للدولة ويعبر عنها حتى إذا كان هذا الفرد مجرد ابن خال – تصريح رامي مخلوف الموجه لإسرائيل في بداية الثورة – جميع أفراد العائلة في الظاهرة الأسدية أصحاب قرار وملك، رؤساء وأنصاف رؤساء، بيدهم القوة العسكرية والأمنية،انتقال الحكم يتوارثوه، والقوة العسكرية الضاربة تنتقل في السلالة من العم إلى ابن الأخ والنسيب وابن الخال، والعائلة تحتكر الريادة في الفروسية. والأيدي الأمنية تدير موارد الدولة، وأفرادها الأكفأ في إدارة الاقتصاد، يتوارثون إدارته ويوزعون اعطاياتهم وشركاتهم كما في السياسة!

  العائلة هي الدولة ومؤسساتها، حتى أصبح التمييز بين خاص العائلة ومؤسسات الدولة بالكاد يلحظ، ولهذا، وتحديداً لهذا، توجه السوريين بحسهم السليم للنيل من جميع أفراد العائلة في هتافاهم وسبابهم من بداية الثورة عام 2011 لم يستثنى أحد من العائلة الأسدية ..وكذلك توجه العنف في بداية الثورة، وانحصر، في حرق مكاتب شركة سيرياتيل في درعا لمالكها رامي مخلوف وتمزيق صور العائلة وتحطيم تماثيلها.

صورة حافظ الأسد المعتلية مدخل نادي ضباط حمص أول تحطيم لأسطورة “القائد الخالد ”  بتاريخ 25آذار2011  ليتوالى بعدها تحطيم واقتلاع تماثيل حافظ الأسد في الرستن بداية، وفي درعا وسط هتاف باسقاط النظام، واقتلع تمثال حافظ في دير الزور وتلبيسة وحماة وعين العرب.. ليصبح اقتلاع التماثيل وتحطيمها وتمزيق الصور في كل بلدة ومدينة طرد منها نظام العائلة هو العنوان، وبلغت ذروة الاقتلاع خلال مشهدية معبرة في نيسان 2013  باسقاط تمثال حافظ في الرقة والتبول عليه علناً، لتنتهي عندها الموجة الأولى من الثورة.  

بدءاً من عام 2015 استطاع نظام العائلة استعادة أراضٍ ومدن خسرها أمام الثورة بمساعدة الروس والميليشيات الإيرانية وحزب الله، وتحت يافطة إعادة الإعمار التي اقتصرت على اعادة التماثيل وبحضور رسمي من حكومة النظام وعناصر من مليشيا حزب الله وضباط ايرانيين في تشرين الأول 2018   أعيد نصب تمثال لحافظ الأسد في دير الزور بدوار السبع بحرات ضمن سردية إعادة الإعمار في مشهد سريالي، تمثال حافظ منتصب وخلفه على بعد أمتار أكوام الخراب وحطام البيوت وتظهر عبارة تهديد ووعيد مكتوبة على لوحة قماشية “لقد عدنا”. ليلاً يصل العبث واللامعقول ذروته بتسليط أضواء كاشفة على التمثال وخلفه مدينة غارقة بالظلام. التمثال بقي منتصباً طيلة ست سنوات حارساً للخراب والعتم  قبل تحطيمه مرة أخرى نهاية عام 2024.

في عام 2019  بعد غياب ثماني سنوات وتحت الحماية الروسية يعود تمثال حافظ  إلى درعا ليظهر في نسخته الجديدة  شاب قوي لا يمكن تحطيمه، نصفه بشر والنصف الآخر حجر، وفي عينيه نظرة برود جامدة – كعيني أفعى -ويداه على طفلين يحملان سنابل قمح، ليقتصر إعادة إعمار درعا على إعادة التمثال كما في دير الزور، وبعد خمس سنوات وسط هتاف ” انزل يلعن روحك ” يحطم ويداس بالأحذية.

في حماة  في الشهر السادس 2011 ازيل تمثال حافظ الأسد بأمر من هشام بختيار رئيس مكتب الأمن القومي  خشية تحطيمه بعد مجزرة قتل فيها الجيش العربي السوري عشرات المدنيين، وفي عام 2017 تفاجىء أهالي المدينة بوجود تمثال حافظ صباح اليوم المتزامن مع الذكرى الخامسة والثلاثين لمجزرة حماة التي وقعت عام 1982 التي ذهب ضحيتها حسب التقديرات 35  ألف من أبناء المدينة بين قتيل ومفقود ومغيب، في رسالة واضحة لأهل المدينة قتلناكم ونقتلكم وسننجو.. بقي التمثال خلال السنوات السبع التالية منتصباً  تحت حراسة مشدة، لكن في يوم 6/12/2024  لقى ذات مصير بقية التماثيل عندما أحاط  به حشد من أبناء المدينة يهتف “رغماً عنك يا أسد… حرية للأبد” لحظة  استخدام ذراع آلية ضخمة تدفعه ليهوي، فصل رأس التمثال وربط بسيارة جرته في شوارع المدينة.

خلال أحد عشر يوم وبدءاً من حلب بقلع باسل الأسد من على ظهر حصان قافز في مدخل المدينة إلى حماة وحمص واللاذقية وطرطوس والسويدا وجبلة ودير عطية وفي كل المدن والبلدات التي حررت، كان إسقاط التماثيل وتمزيق الصور بمثابة إعلان تحرير، لم يصدر في أي من المدن إعلان سيطرة عليها أو بيان رقم واحد بالتحرير. فيديوهات التي تظهر التماثيل وهي تتهاوى وترحيلها بسيارات القمامة القمامة وتمزيق الصور ودوسها بالأرجل حل محل البيانات والتصريحات السياسية والعسكرية، معلنة نهاية الأبد.

ما تراكم  طيلة نصف قرن تمت إزالته بساعات. لكن تلك المرحلة وصورها ستبقى في ذاكرة السوريين الجمعية لزمنٍ طويل، ذاكرة مزدحمة بصور أشخاص وأسماء العهد الإبادي الذي طال البشر والحجر، عهد لن يمحوه  الزوال الفيزيائي لتلك العائلة من عالمهم وتمزيق صورهم وتحطيم تماثيلهم، وجودهم سيبقى في ذاكرة السوريين، ينتقل من جيل إلى جيل كتميمة وحرز كي لايعود ما يشبهه، وعندها، عندها فقط تستحيل تلك العودة وستنفصل عن الذاكرة السورية نصب العائلة وصورها وأكاذيبها ومشهد الأبدية التي حكمتهم في يومياتهم، وستعتاد الأعين، أعين السوريين، على رؤية بعضهم لبعض ورؤية بلدهم بدل رؤيتهم لصور العائلة وتماثيلها أينما استدارت رؤوسهم طيلة نصف قرن.

هل كان من بالإمكان إبقاء تمثال واحد في حالة سقوط دائم وسط دمشق، ليته يتم.. وليت كأمنية يتم تحويل جزء من سجن صيدنايا ببقايا التماثيل المحطمة، متحف عن العهد الإبادي الذي هيمن على سوريا طيلة نصف قرن وأربع سنوات وانتصرت عليه. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى