العربي الآن

خطاب الوداع الذي لم يقله بشار الأسد  

أعتقد أن الفنانين والإعلاميين الذين طالما سبحوا بحمدي وقالوا إذا ذهبت لن يكون هناك سوريا لن يتوانوا عن شتمي والقول أنهم كانوا معارضين لي بالسر!

نوار الماغوط – العربي القديم

أيها الأخوة المواطنون،

لم أكن أظن أن هذا اليوم سيأتي، ولم أتصور يومًا أنني سأقف أمامكم ليس لأبرر، ولا لأخدعكم كما فعلت مرارًا، بل لأعترف. نعم، أعترف أنني كنت السبب فيما وصلت إليه سوريا اليوم. كنتُ أعتقد أن السلطة تعني البقاء بأي ثمن، وأن الحكم لا يستقيم إلا بالقوة والدم، فكنتُ القاتل، وكنتُ الآمر، وكنتُ الجلاد.

لطالما وقفتُ أمامكم متحدثًا عن المؤامرات، عن الأعداء، عن الحرب الكونية التي حيكت ضد سوريا، وكنتُ أجيد تفكيك المصطلحات، إعادة تركيبها، صناعة الدلالات التي تعطي للكلمات بعدًا آخر يتجاوز الفهم السطحي للأحداث. لكن اليوم، وفي لحظةٍ لم أكن أتخيلها، أجدُ نفسي مضطرًا لأن أتحدث بلغةٍ أخرى، ليس دفاعًا، ولا تبريرًا، وإنما اعترافًا بأن كل ما قُلتُه سابقًا كان جزءًا من شبكة الأكاذيب التي نسجتُها حولكم، حتى ظننتُ أنا نفسي أنها الحقيقة.

دعونا بداية نحدد مفهوم “السيادة”، تلك الكلمة التي كررتها مراراً حتى فقدت معناها. السيادة، بمفهومها السياسي والاجتماعي، هي امتلاك الدولة قرارها المستقل، قدرتها على ضبط الداخل، والتفاعل مع الخارج من موقع الندّية. لكنني، وبكل بساطة، حوّلتُ مفهوم السيادة إلى شعار زائف أخفيتُ تحته عجز النظام، تبعيته، وانصياعه لكل من كان ضامنًا لبقائي. كنتُ أبيعكم شعارات الاستقلال بينما كنتُ أقبض الثمن من عواصم بعيدة، وأفتح أبواب سوريا لكل من يدعم سلطتي، لا لمن يحمي الوطن.

أما “الأمن والاستقرار”، وهما من المصطلحات التي كنتُ أكررها حتى أصبحتا كالمقدسات، فماذا يعنيان حقيقةً؟ الأمن، وفق التعريف الكلاسيكي، هو شعور المواطن بالطمأنينة، بقدرته على العيش دون خوف من الاعتقال التعسفي، أو الاختفاء القسري، أو القتل تحت التعذيب. أما في تجربتي، فقد كان الأمن يعني السيطرة، يعني أن يعرف الجميع أنني أراقبهم، أنفاسهم، كلماتهم، حتى صمتهم. كان الاستقرار الذي تحدثتُ عنه طيلة السنوات الماضية يعني شيئًا واحدًا: استقرار سلطتي، ولو كان الثمنُ خراب البلاد.

لكنني لم أكتفِ بذلك. كنتُ أعتقد أن الحكم يحتاج إلى قبضةٍ حديدية، إلى نهجٍ ميكافيلي يعتمد على قاعدة “الغاية تبرر الوسيلة”، وهنا لا بد من توضيح الفكرة، فالميكافيلية ليست مجرد مكر سياسي، بل فلسفة كاملة تقوم على تحييد الأخلاق عن السياسة، على اعتبار أن نجاح الحاكم لا يُقاس بمدى عدله، وإنما بمدى بقائه. وبهذا المبدأ، أمرتُ بقتل المتظاهرين، بفتح السجون لكل من حلم بسوريا مختلفة، بإلقاء البراميل المتفجرة على أحياءٍ بأكملها، لا لشيء سوى لأنني كنتُ أرى أن الرعب هو اللغة الوحيدة التي يفهمها الناس.

في كل مرة كنتُ أقف أمامكم، كنتُ أقدم نفسي كحامي البلاد، كحارس السيادة، كضامن الاستقرار، لكنني اليوم، ولأول مرة، أتكلم ليس كمنتصر، ولا كمدافع عن موقف، بل كإنسان يواجه الحقيقة التي تهرب منها طويلًا.

أنا من أمرتُ بأن تُفتح النيران على المتظاهرين العُزّل، لا لشيء سوى لأنهم تجرأوا على رفع أصواتهم. أنا من قرر أن يُعتقل الآلاف، وأن يُذوَّبوا في الأسيد حتى لا يبقى لهم أثر. كنتُ أرتعد من فكرة أن يخرجوا يومًا ليشهدوا ضدي، فمحوتهم قبل أن يُكتب لهم ذلك.

أنا من أطلقتُ سراح القتلة والمتطرفين، وتركتُهم يعيثون في البلاد فوضى، بينما كنتُ أُلاحق كل من حمل وردةً أو هتف بشعارٍ لا يعجبني. لم يكن يهمني سوى بقائي، ولو كان الثمن هو تجويعكم، إذلالكم، سحقُ أحلامكم تحت أقدام جنودي وشبيحتي. سرقتُ أموالكم، سرقتُ خيرات بلادكم، جففتُ كل مورد كان يمكن أن يكون لكم، وتركتكم تواجهون الفقر بينما كنتُ أُمعن في بناء قصوري، وأكدّس ثرواتي في البنوك التي لن تصلوا إليها أبدًا.

لطالما وقفتُ أمامكم متحدثًا عن “السيادة”، عن “الصمود”، عن “المؤامرات الخارجية”، بينما كنتُ في الحقيقة أخدعكم، أبيعكم الوهم، وأسرق البلاد كما سرقها والدي من قبلي. لم تكن سوريا دولة حقيقية في يوم من الأيام، بل كانت مزرعة خاصة لعائلة الأسد، منذ أن استولى والدي حافظ الأسد على الحكم عام 1970، وحوّل الدولة إلى ملكية خاصة يتوارثها أبناؤه، ويُحكمها بالحديد والنار، ويحتكر ثرواتها كما يشاء.

لقد بدأ النهب المنظم منذ اللحظة الأولى، حين تم تسليم الاقتصاد إلى مجموعة من العائلات المقربة، ومنحهم “الوكالات الحصرية” لكل شيء: الغذاء، الدواء، الصناعة، التجارة، حتى الهواء الذي تتنفسونه كان يُباع لكم عبر رجال الأعمال الذين صنعهم النظام. لم يكن الفساد مجرد انحراف عن المسار، بل كان هو المسار الوحيد. كنا نتحكم بكل شيء، نقرر من ينجح ومن يفشل، من يصبح كاتبا كبيرا ونجما لامعا  ومن يصبح كاتبا مغمورا وموظفا مهمشا ومن يصبح ثريًا ومن يصبح فقيرا ومن يصبح وزيرا وعضو مجلس الشعب ومن يُلقى في السجن بتهمة “التلاعب بالاقتصاد”. كانت الثروات تُكنز في قصورنا، بينما كنتم أنتم تُحرمون حتى من لقمة العيش.

أما النفط، وخيرات البلاد، فقد كانت تباع في السوق السوداء، يتم تهريبها عبر الحدود، ويذهب ريعها إلى حساباتنا في الخارج، بينما كنا نُقنعكم بأن العقوبات هي السبب في فقركم. لم يكن السوريون يرون شيئًا من أموال بلادهم، لأننا كنا ننهبها قبل أن تصل إليهم. منذ عقود، لم يكن هدفنا بناء وطن، بل بناء إمبراطورية مالية خاصة تحمي حكمنا، ولو كان الثمن هو أن يجوع الشعب بأكمله.

جئتُ أنا، كامتداد طبيعي لهذا النهب، لم أُغيّر شيئًا، بل أكملتُ المسيرة، وربما تفوقتُ على والدي في الجشع والقمع لكنني كنت صنيعته. كنتُ أُدرك أن المال هو أساس السلطة، فوسّعتُ دائرة الفساد، وجعلتُ عائلتي وأقربائي يحتكرون كل ما تبقى من اقتصاد سوريا. كنتُ أعرف أن زوجتي، أسماء الأخرس، التي دخلت القصر كواجهة “مدنية” للنظام، ستصبح لاحقًا شريكتي في السرقة، فبنيتُ لها إمبراطورية مالية خاصة بها وبعائلتها، ووضعتُ بين يديها أكبر الشركات وأضخم المشاريع، حتى أصبحت تتحكم في كل شيء: البنوك، العقارات، الجمعيات الخيرية التي لم تكن سوى غطاءً لنهب المزيد من الأموال.

لقد سرقنا سوريا علنًا، صادرنا أملاك الناس، استولينا على الشركات، فرضنا الإتاوات على رجال الأعمال، وحين رفضوا، زججنا بهم في السجون أو دفعناهم للهروب خارج البلاد. لم يكن هناك اقتصاد حقيقي، بل كانت هناك شبكة مافيوية تديرها  زوجتي أسماء وعائلتها وواجهاتها الاقتصادية، والتي كانت تضع أموال السوريين في حساباتها الخاصة، بينما كنتم أنتم تنتظرون لساعات في الطوابير من أجل الحصول على الخبز أو الوقود.

نعم، لقد رفضتُ كل دعوة للحل، رفضتُ كل مبادرة قد تفتح باب المصالحة، ليس لأنني كنتُ حريصًا على سوريا، بل لأنني كنتُ خائفًا على نفسي وعلى نظامٍ بناه والدي حافظ الأسد بيدٍ من حديد، علّمني أن أي تنازل، مهما كان بسيطًا، هو بداية الانهيار. كان يمكنني أن أفتح الباب لحوار حقيقي عندما بدأت الاحتجاجات، كان يمكنني أن أوقف القتل، أن أوقف التدمير، أن أمنع تهجير الملايين، ولكنني رأيتُ في ذلك ضعفًا، ورأيتُ في العنف حلًا أسرع وأبقى.

دعوني أكون واضحاً: لم يكن الرفض موقفاً سياسياً فحسب، بل كان قراراً واعياً. لم أقبل بالمصالحة مع تركيا، لأنني كنتُ أرى في أردوغان خصمًا، رغم أنه فتح لي باب التسوية. لم أستجب للدول العربية حينما عرضت إعادة العلاقات مقابل إصلاحات حقيقية، لأنني كنتُ أعلم أن أي إصلاح، ولو كان سطحيًا، سيؤدي إلى تصدع بنيان السلطة التي حميتها طوال هذه السنوات. كنتُ أدرك أن التخلي عن أي جزء من منظومة القمع، عن أي عنصر من أدوات الترهيب، يعني أن السقف سينهار فوق رأسي، فوق رؤوس من التفوا حولي، ممن بنوا معي هذه الدولة الأمنية التي لم تعترف يومًا بشيء اسمه إرادة شعب.

لقد فضلتُ أن أُبقي سوريا في حالة من العزلة، على أن أخاطر بإعطائكم فرصة لحياة أفضل. فضلتُ أن أُبقيكم تحت الحصار، تحت الخوف، تحت الفقر، بدلًا من أن أقدم تنازلاتٍ قد تسمح لكم باستعادة كرامتكم. لم يكن هذا جهلًا، لم يكن سوء تقدير، بل كان خيارًا متعمدًا، خيارًا استراتيجيا لحماية حكمٍ كان لا يقوم إلا على الخوف والدم.

الممثلات اللواتي كن يترددن على فراشي سيقولون إنهن أكثر من عانينَ من ظلمي

لكنني اليوم، وأنا اغادر إلى منفاي الذي لم أختره، أدرك أنني كنتُ أحمق. لم أفقد سوريا فقط، بل فقدتُ حتى من كنتُ أظنهم أوفياء لي. شبيحتي، جهازي الأمني، حتى أقرب المقربين، وأعتقد أن الفنانين والإعلاميين الذين طالما سبحوا بحمدي وقالوا إذا ذهبت لن يكون هناك سوريا لن يتوانوا عن شتمي والقول أنهم كانوا معارضين لي بالسر!…  والممثلات اللواتي كن يترددن على فراشي سيقولون إنهن أكثر من عانينَ من ظلمي ولم يستفِدنَ مني بشيء…  هؤلاء أكثر من سأحتقرهم كما سيحتقرهم الشعب الذي ثار ضدي. سيكون هناك إجماع على قذارتهم.

  كنتُ أعتقد أنني أسيطر على كل شيء، أنني اللاعب الوحيد، لكنني كنتُ مجرد جزء من آلة صنعتُها ثم ابتلعتني.

اليوم، أنا هارب. ليس لأنني أردتُ ذلك، ولكن لأنني لم أعد أملك حتى قرار بقائي أو رحيلي. كنتُ أظن أنني المتحكم بالمصائر، فاكتشفتُ أنني مجرد تفصيل في لعبة أكبر، لعبة اعتقدتُ أنني أفهمها، بينما كنتُ في الحقيقة مجرد دمية أخرى في مسرحها .

لن أقول إنني نادم، لأن الندم لا يليق بمن اعتاد أن يكون قاتلًا، لكنني أعترف بأنني خسرتُ كل شيء، أنني أصبحتُ مجرد طاغية هارب، أنني انتهيتُ كما ينتهي كل طاغية، محاصرًا بالخيانة، باللعنات، بالخوف الذي زرعته لسنوات، والذي أصبح الآن يحيطني من كل اتجاه.

عاشت سوريا… رغم أنني فعلتُ كل ما بوسعي كي لا تعيش.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى