هل تخبو شعلة الثورة حين يتحقق الحلم؟
كنت معتادًا على الحماس، على الأمل الذي لا ينطفئ حتى في أحلك اللحظات

بلال الخلف – العربي القديم
لا أعرف كيف أبدأ الحديث، ولا كيف أرتب الأفكار التي تتزاحم في رأسي، تصطدم ببعضها، ثم تتلاشى قبل أن أتمكن من الإمساك بها. أشعر وكأنني أقف عند مفترق طرق، أنظر خلفي فأرى طريقًا طويلًا من المعاناة والنضال، وأنظر أمامي فأرى فراغًا واسعًا لا أعرف كيف أملؤه.
حين انطلقت الثورة، لم يكن هناك مجال للتردد أو التفكير الطويل، كل شيء كان واضحًا بالنسبة لي ولمن حولي. لم يكن السؤال: هل سننضم؟ بل: كيف يمكن أن نعطي أكثر؟ كنت في بداية شبابي، في عمرٍ يفترض أن تكون أولوياتي فيه مختلفة، لكن لم يكن هناك مجال للحياة الطبيعية وسط النار المشتعلة.
أتذكر صفي الدراسي جيدًا، كنا سبعة عشر شابًا وتسع عشرة فتاة، نجلس معًا كل يوم، نضحك، نتحدث عن أحلامنا، عن المستقبل الذي نريده. لم نكن نعلم أن المستقبل سيكون قاسيًا إلى هذا الحد. لم نكن نعلم أن القائمة ستتقلص عامًا بعد عام، وأننا لن نلتقي مجددًا بنفس العدد ولا بنفس الوجوه. بحلول السنوات الأخيرة من الحرب، كنت قد فقدت معظم زملائي. البعض استُشهد، البعض الآخر غُيب في المعتقلات، ومن تبقى حمل حقيبته ورحل عن البلاد، يبحث عن فرصة للحياة في مكان آخر. قبل سقوط النظام، لم يبقَ في الداخل سوى اثنين منا: أنا ورفيق آخر، نجونا بأعجوبة من طوفان الدم، لكن أي نجاة هذه؟ وأي حياة تنتظر الناجين بعد كل هذا؟
لم يكن الزواج ضمن أولوياتي، رغم أن من في مثل سني كان من المفترض أن يفكر بذلك، أن يبحث عن الاستقرار، أن يكوّن أسرة. لكنني لم أكن أرى في الاستقرار خيارًا متاحًا، ولا في الأسرة حلمًا ممكنًا. كنت أريد أن أظل حرًا، لا يقيدني شيء، لا وقت ولا التزام، كنت أريد أن أبقى مستعدًا لكل طارئ، لكل مواجهة، لكل ليلة قد أضطر فيها إلى الهرب أو القتال.
لكن اليوم… اليوم أشعر أنني رجل آخر، أو ربما مجرد ظلٍ لذلك الشاب الذي كنت عليه. حين تحقق الحلم، حين سقط النظام الذي قاتلناه لأعوام، ظننت أنني سأقفز فرحًا، أنني سأعيش لحظة الانتصار كما تخيلتها دائمًا، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث. على العكس، وجدت نفسي غارقًا في خمول غريب، كسل مطبق، وكأنني استهلكت كل طاقتي خلال السنوات الماضية ولم يبقَ لي منها شيء.
كنت معتادًا على الحماس، على الأمل الذي لا ينطفئ حتى في أحلك اللحظات، لكن فجأة، توقفت عن الحلم. لم أعد أعيش تلك اللحظات التي كنت أتخيل فيها كل مساء مستقبلًا جديدًا، أفكارًا مجنونة كنت أخطط لها، مشروعات كنت أريد أن أنجزها، كل ذلك اختفى.
حتى مظهري تغيّر. لم أعد أكترث لشعري، ولا لملابسي، ولا لشكلي. لم أعد أشعر أن شيئًا يستحق الاهتمام. حتى الكتابة، التي كانت ملجئي وسلاحي، صارت نادرة. كنت أكتب كل يومين مقالًا لصديقي أبي يزن محمد منصور، أرسل له أفكاري، أتبادل معه النقاش، لكنه اليوم ينتظر دون جدوى. تمر الأيام، وربما الأسابيع، دون أن أكتب شيئًا، دون أن أشعر بالرغبة في الكتابة.
أشعر وكأنني هرمت فجأة، شاخت عزيمتي، وكأن تلك الشعلة التي ظلت تشتعل داخلي لسنوات قد انطفأت. كنت أظن أن تحقيق الحلم سيجعلني أقوى، لكنه جعلني أكثر إرهاقًا، وكأنني جندي خرج من معركة طويلة، ليجد نفسه في صمت ثقيل لا يعرف كيف يتعامل معه.
ما الذي يحدث لي؟ لا أعلم. لكنني متأكد من شيء واحد: الثورة لم تكن مجرد معركة مع النظام، بل كانت أسلوب حياة، كانت هي الشيء الذي يمنحني معنى، وحين انتهت، لم أعد أعرف ماذا أفعل. لم أعد أعرف كيف أعيش حياة لا تقوم على التحدي والمقاومة.
هل سأجد معنى جديدًا؟ هل سأتمكن من استعادة روحي؟ لا أعلم، لكنني أبحث… وأرجو ألا يستغرق البحث وقتًا طويلًا.