العربي الآن

قرارات الإدارة السورية الجديدة بين العشوائية والتعسف

أصبح تعيين الوزراء والمديرين قائماً على صلاتهم الشخصية بأصحاب النفوذ، وليس على الكفاءة.

سامي زرقة – العربي القديم

منذ تولي أحمد الشرع زمام الحكم في سوريا، انهالت القرارات الإدارية والسياسية وكأنها أمطار عشوائية على أرضٍ تآكلت بفعل سنوات الحرب والتجاذبات الإقليمية.. لكن ما يبدو ظاهرياً كمحاولة لإعادة بناء الدولة لم يكن سوى هدم منظم لما تبقى من مؤسساتها، وسلوك سلطوي قائم على المزاجية، لا على التخطيط المدروس.. فقرارات حل الجيش والشرطة، وتصفية القطاع الإداري بفصل آلاف الموظفين، واعتماد آليات اقتصادية لا تمت بصلة للواقع، كلها مؤشرات واضحة على أن الإدارة الجديدة لم تفهم بعد معنى الحكم الرشيد، بل تغرق أكثر فأكثر في مستنقع الفوضى والمحسوبيات.

الفصل التعسفي.. عقاب جماعي بدل الإصلاح

منذ أن أعلنت السلطات الجديدة عن حملة “تطهير” للمؤسسات، تم الاستغناء عن آلاف الموظفين بحجة انتمائهم إلى النظام السابق أو عدم توافقهم مع “الرؤية الجديدة”.. لكن هذه القرارات لم تميز بين الفاسد والنزيه، بين المجرم والمجتهد، بل جاءت كعقاب جماعي شمل خبرات وكفاءات ظلت تعمل في مؤسسات الدولة رغم الحرب والانهيار.. المفارقة أن هؤلاء الذين تم فصلهم، يتم استبدالهم اليوم بأشخاص تم تعيينهم عبر نظام محسوبيات مفضوح، حيث لا يتم اختيار المسؤولين بناءً على الكفاءة أو الخبرة، بل وفقاً للولاء الشخصي أو العلاقات العائلية.. أو ما يسمى حديثاً بـ “الخلفية الثورية”، وكأن الأخيرة حكر على أناس بعينهم دون غيرهم.

حل الجيش والشرطة.. استبدال الأمن بفصائل غير منضبطة

كان من الطبيعي أن يحتاج الجيش والأجهزة الأمنية إلى إصلاح شامل بعد سنوات من التورط في الصراع، لكن حلّها بالكامل دون بديل جاهز هو وصفة جاهزة لإغراق البلاد في مزيد من الفوضى.. كيف لدولة أن تستمر دون جهاز أمني يحفظ الاستقرار؟ وكيف يمكن ضبط الجريمة والحد من الانفلات الأمني في ظل غياب الشرطة والقضاء الفعّال؟ بدلًا من بناء مؤسسات أمنية حديثة، استُعيض عنها بفصائل غير منضبطة تابعة لأشخاص ذوي نفوذ، كلٌّ منهم يتحكم بمنطقته الخاصة، لتتحول الدولة إلى مجرد كيانات متصارعة في ما بينها.

التعامل العبثي مع الاقتصاد.. من الانهيار إلى الفوضى المنظمة

أما الاقتصاد، فهو الضحية الأكبر لهذه السياسة العشوائية، إذ أُعلن عن إعادة هيكلة النظام المالي، لكن الخطوات الفعلية كانت مجرد قفزات في الهواء.. رفع الدعم عن السلع الأساسية بدون إيجاد بدائل للفقراء، وإغلاق مؤسسات إنتاجية بحجة ارتباطها بالنظام السابق، وفرض ضرائب باهظة على القطاع الخاص دون تقديم أي ضمانات استثمارية، كل هذا أدى إلى تفاقم أزمة البطالة وتدهور القدرة الشرائية للمواطنين.. الاقتصاد، الذي كان يعاني أصلاً من آثار الحرب والعقوبات، بات الآن في قبضة قرارات غير مدروسة جعلت من المستقبل أكثر قتامة.

اللجنة الدستورية.. ديكور ديمقراطي دون مضمون

ومن المهازل السياسية الأخرى، تشكيل اللجنة الدستورية التي كان يُفترض أن تضع اللبنة الأولى لسوريا الجديدة.. لكن بدلاً من أن تضم هذه اللجنة خبراء في القانون والدستور، جاءت أسماؤها صادمة: أغلب الشخصيات لا تمتلك أي خبرة قانونية، فقد تم اختيارهم وفق منطق الولاء والمحسوبيات، بل إن بعضهم لا يدرك حتى أساسيات الدستور الذي من المفترض أن يشارك في صياغته! أما الخبراء الفعليون، فقد تم إقصاؤهم لأنهم لا ينتمون إلى الدائرة الضيقة لصنّاع القرار الجدد.

المحسوبيات والواسطات.. تكرار للخطايا القديمة

كان السوريون يأملون أن تكون الإدارة الجديدة مختلفة عن سابقتها، لكنهم اكتشفوا سريعاً أن آليات الفساد لم تتغير، بل ازدادت وقاحة.. أصبح تعيين الوزراء والمديرين قائماً على صلاتهم الشخصية بأصحاب النفوذ، وليس على الكفاءة. مناصب حساسة تم منحها لشخصيات لا تملك أدنى المؤهلات، ما سيجعل الأداء الحكومي كارثياً.. فالقرارات تصدر دون دراسات مسبقة، والوزارات تدار بعشوائية تجعل الدولة تبدو وكأنها في حالة “إدارة ذاتية” لكل جهة على حدة، دون وجود منظومة موحدة أو رؤية واضحة.

في الختام.. لا شك أن سوريا تحتاج إلى تغيير جذري بعد أكثر من عقد من الحرب والدمار، لكن ما يحدث اليوم قد لا يُبشّر بالخير.. بدلاً من تأسيس دولة قانون ومؤسسات، نرى دولة تُدار بالمزاجية والمصالح الشخصية، وبدلاً من الإصلاحات الحقيقية، نشهد سياسات انتقامية لا تؤدي سوى إلى مزيد من الفوضى والتدهور.. إذا استمرت هذه السياسات، فإن سوريا لن تخرج من نفق الأزمة، بل قد تنزلق أكثر نحو هاوية مجهولة، حيث لا دولة، ولا أمن، ولا اقتصاد، بل مجرد كيان هش تسيطر عليه شبكات المصالح والمحسوبيات.. وتتقاذفه أهواء الدول الإقليمية والكبرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى