العربي الآن

نقاش على صفيح ساخن: تفكيك الطائفية لا يكون بتعميمها

نقد الطائفية لا يكون بتعويمها، ولا بمحاولة تصوير الجميع كمذنبين والمساواة بين الضحية والجلاد

بلال الخلف – العربي القديم

في زمن ترتجف فيه الكلمات عند الاصطفافات، وتضيع فيه المفاهيم تحت ركام “النيات الحسنة”، يخرج عامر قنواتي ليقدّم تأملًا طويلًا في الحالة السورية، متكئًا على مقاربة ظاهرها “تفكيكي” وباطنها “تبريري”، يخالها البعض بوابة لحوار وطني بينما تنزلق في جوهرها إلى توازن قلق بين نقد النظام وتوزيع الملامة على الجميع بالتساوي، في تجاهل فجّ لمعنى المركز والضحية والجلاد.

ففي منشور طويل على صفحته على فيسبوك يذهب السيد قنواتي إلى أن الأقليات كانت تعاني من النبذ الاجتماعي من الأكثرية السنية، ما كان يكرّس مفاهيم مغلوطة للمكونات السورية عند بعضها البعض ويفتعل نوعا من الخوف والريبة من المختلف” ثم يزعم أنه: “للأسف كانت ومازالت الأكثرية السنية غير قادرة على الاحتواء، التفكير دائما بمنطق الغلبة والانتصار ومطالبة الآخر بالإذعان والقول أنه خسر حرباً مع أنه لا يعتبر نفسه طرفا فيها … هذه مسألة بالنسبة لي بحاجة إلى عمل مكثّف من السنة أنفسهم”. ويستمر في ترديد كذبة أن السنة كانوا يفضلون التجارة على الانتساب إلى الجيش، متجاهلا التسريحات الطائفية لكبار الضباط من سنة دمشق وحلب وحمص وحماة بعد انقلاب البعث وعلى يد اللجنة العسكرية الطائفية التكوين، وفي ذلك يقول: “نتيجة الطائفية الأسدية والطريقة البعثية في إدارة البلاد فقد كانت مؤسسات الدولة بغالبها وخاصة في دمشق  موظفين من الأقليات، ذلك أن الوظيفة تحتاج انتسابا بعثياً ما، إضافة إلى أن الجيش والمخابرات لم يكونا مكانا يرغب السنة الوجود فيه وخاصة أبناء محافظتي دمشق وحلب الذين يفضلون التجارة… وفي الوقت نفسه كان الخيار شبه الوحيد للحصول على وظيفة بالنسبة لأبناء الساحل خصوصاً…”

وفيما يلي ردي ومناقشتي لهذه الطروحات وفق النقاط التالية:

أولاً: الطائفية ليست شعوراً، بل ممارسة سلطوية

نعم، نظام الأسد طائفي، لكنه ليس فقط “ذو منطق أقلياتي” كما وصف عامر، بل نظام بنى شرعيته الأمنية على معادلة “الأسد أو نحرق البلد”، وهو ما فعله حرفيًا. الطائفية عند النظام لم تكن مجرد خلفية ثقافية، بل أداة ضبط وإخضاع وقمع سياسي منظم، وتحديدها بهذه الطريقة الخفيفة يفرّغ الجريمة من بعدها المؤسساتي. الطائفية ليست رأيًا بل بنية سلطوية.

ثانياً: مساواة الضحية بالجلاد ظلم أخلاقي قبل أن يكون خطأ تحليلياً

أن نقول إن السنة لم يكونوا قادرين على “الاحتواء” وأنهم يفكرون “بعقلية الغلبة”، فهذا ليس توصيفًا اجتماعيًا بل انزلاق خطير إلى تبرئة الطائفية المؤسساتية للنظام وتوزيع المسؤولية على مكونات المجتمع ككل. الحقيقة أن الأكثرية السنية كانت، رغم التهميش والتضييق، مكونًا اجتماعيًا حاول أن يتعايش طويلاً، وأن انخراطه في الثورة لم يكن دينيًا ولا طائفيًا، بل ثورة حرية وكرامة دفع ثمنها كل السوريين. من الظلم أن يُحمّل من ثار على الظلم مسؤولية عدم احتواء من خدم الظالم.

ثالثاً: “الموظف الجيد” لا يعفيك من مبدأ العدالة الانتقالية

التمييز بين موظفي الدولة والعناصر القمعية خطوة جيدة، لكن تجاوز الحديث عن الجرائم الفردية والمؤسساتية باسم “ظروف العمل” أو “الاضطرار” فيه تميع للعدالة. لا يمكن بناء سوريا جديدة دون مساءلة واضحة لا تخلط بين من كان مضطراً فعلاً ومن كان جزءاً من آلة القتل.

رابعاً: المستقبل لا يُبنى بنصف موقف

حين يسأل عامر: “هل النظام الحالي طائفي؟” ويجيب بـ “لا نعلم بعد”، فهو يزرع بذور الحذر في أرض ينبغي أن تُروى بالوضوح. إن لم تكن قادراً على تسمية الخطأ باسمه من بدايته، فستضطر لاحقًا إلى تبرير كل انحراف، باسم الواقعية أو التدرّج.

خامساً: ما هكذا تُبنى الثورات، ولا ما هكذا يُكتب العقد الاجتماعي

صمت المتخوفين ليس خطأ، لكن تخويف الصادقين من البوح بذريعة المرحلة الانتقالية هو الخطأ. نعم، من حق الجميع أن يتكلم، لكن ليس من حق أحد أن يحوّل خوفه إلى سيف يُشهر في وجه الضحية ليلومها على غضبها أو يطالبها بإعادة تفسير مظلوميتها وفق معايير “التماسك الوطني”.

في الختام:

نقد الطائفية لا يكون بتعويمها، ولا بمحاولة تصوير الجميع كمذنبين والمساواة بين الضحية والجلاد. سوريا المستقبل تُبنى على الوضوح الأخلاقي، لا على الإنصاف الزائف الذي يساوي بين القاتل ومن طالب بدولة مواطنة. إن كان لا بد من بداية، فلتكن الاعتراف بأن ما حدث في سوريا كان ثورة ضد نظام مجرم، لا “خللاً مجتمعياً مشتركاً”، وأن الطريق إلى الديمقراطية لا يُرصف إلا بقول الحقيقة أولاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى