دلالات وقضايا | من كُتَّاب البعث إلى كتَّاب عزمي بشارة
كيف لا ينشر لكم وأنتم تسيرون على الطَّريق الأيديولوجيِّ المرسوم لكم؟

د. مهنا بلال الرشيد – العربي القديم
نناقش في هذا المقال ظاهرة الاستكتاب أو كتابة بعض الكتَّاب لغايات مادِّيَّة؛ أي ظاهرة الكتابة النَّفعيَّة البعيدة عن المبدئيَّة أو الكتابة لكسب الرِّزق بغض ِّ النَّظر عن دور هذه الكتابة وأدوار أصحابها من الكُتَّاب في تحقيق أيديولوجيا المموِّل أو دفعها نحو الأمام، ومثالًا على هذه الظَّاهرة لدينا نموذجين من المُستَكتَبين لدى كلٍّ من حزب البعث في سوريا أوَّلًا، ولدى عزمي بشارة في إمبراطوريَّته الإعلاميَّة ثانيًا؛ لنتساءل عن دوافع الكتابة وأهدافها والأيديولوجيا المحرِّكة في هذين النَّموذجين من الكتابة، ونحاول الوقوف على قدرة هؤلاء المستكتبين في تحقيق أهداف المموِّل أو المستكِتب، وإن تشابهت ظاهرة الكتابة لدى حزب البعث بظاهرة الكتابة لدى عزمي بشارة من جانب فإنَّ الفروق الفرديَّة واضحة أيضًا بين كاتب وآخر لدى البعث أو لدى عزمي بشارة، وتتجلَّى هذه الفروق الفرديَّة في قدرة الكاتب أو المستَكتَب منهم على اختيار موضوع كتابته في مقاله الأسبوعيِّ أو الشَّهريِّ ودرجة حرِّيَّته في اختيار الموضوع والانخراط في الموضوع والحقول الدَّلاليَّة المرغوبة لدى هذه الأيديولوجيا أو تلك أو في تجنَّب محظورات الكتابة أو بعض مواضيعها أو حقولها الدَّلاليَّة في هذه الأيديولوجيا أو تلك.
البعث وعزمي بشارة يُجيدون انتقاء الكُتَّاب والمُستكتَبين
أشاع نفرٌ من كُتَّاب البعث وكتَّاب عزمي بشارة أكثر من مرَّة بأنَّ رؤساءهم المباشرين في مواقع النَّشر لا يملون عليهم موضوعات مقالاتهم، ولم يسبق لرؤسائهم أن رفضوا نشر هذا المقال أو ذاك، بل سُرعان ما يأخذ المقال المُرسل طريقه إلى النَّشر. وكشف بعض المتابعين عن صِدق هذا الخبر المشاع بتساؤلات مهمَّة: كيف يرفض عزمي بشارة نشر مقالاتكم وأنتم تصدحون بما يُملى عليكم؟ كيف لا ينشر لكم وأنتم تسيرون على الطَّريق الأيديولوجيِّ المرسوم لكم؟ كيف لا ينشر لكم عزمي بشارة وأنتم تسهمون معه في تضليل المجتمع أو زيادة الفرقة بين أبنائه؟ كيف لا ينشر لكم عزمي من خلال رؤسائكم المباشرين في العمل وكتاباتكم لا تبتعد عن الإشادة بعزمي بشارة أو الخضوع لإملاءاته أو الصَّمت عن مخاطر الأيديولوجيا الَّتي تصنعها أو دعم هذه الأيديولوجيا من خلال دعم جنودها عبر الإشادة برؤسائكم وزملائكم في مراكز العمل ومواقع النَّشر والتَّحرير والإعلامة التَّابعة له؟
تميل فئة أخرى من كتَّاب البعث ومُستكتَبي عزمي بشارة إلى الصَّمت تجاه كثير من قضايا الرَّأي العامِّ، ويشكِّلون كتلة صلبة أو شبه صلبة نتيجة خضوعهم لأيديولوجيا بعثيَّة شموليَّة أو استكتابيَّة-تمويليَّة واحدة؛ ولهذا السَّبب لا يجد هؤلاء المستكتبون فسحة لهم إلَّا بتعبير بعضهم الأوَّل عن إعجابه بكتابات بعضهم الآخر وتعليقهم على هذه المنشورات في مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ أو مواقع النَّشر التَّابعة لعزمي بشارة، ويتبادولون هذه الإعجابات والتَّعليقات والإطراءات كما لو أنَّهم من المؤثِّرين على مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ بعضِّ النَّظر عن جودة الكتابة ذاتها، والتَّافهة نعم التَّفاهة-بحدود علمي-واحد من جملة اعتبارات مهمَّة يُختار على أساسها بعض المؤثِّرين، ويُدعمون، وتوثَّق صفحاتهم على مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ بالعلامة الزَّرقاء أيضًا؛ وذلك لتكريس خضوعهم الأيديولوجيِّ لمركز تمويلهم؛ تظهر بالمحصَّلة هذه الطَّائفة من المستكتَبين المجنَّدين بمظهر المؤثِّرين في مواقع التَّواصل، ويزيد تبادل الإعجابات وتعليقات بعضهم الأوَّل لبعضهم الآخر على منشوراتهم في ترويج حضور بعضهم وإن كان حضورًا تافهًا أو منفصلًا عن الواقع.
اختيار المرء دليل عقله
تحدَّث كثير من كتَّاب البعث أو مستكتَبي عزمي بشارة عن حرِّيَّة كاملة أو شبه كاملة في اختيار مواضيع كتاباتهم، الَّتي كانوا ينشرونها في المواقع التَّابعة للبعث أو المملوكة من قبل عزمي بشارة، وأنا ههنا لا أشكِّك في هذا الحديث وإن اختلفت معهم في كثير من التَّوجُّهات. نعم؛ كثير منهم صادقون حين قالوا: لم يجبرنا البعث على اختيارَ المواضيع التَّطبيليَّة، ولم يكن عزمي بشارة يملي علينا مواضيعًا ثانويَّة أو تافهة تنكأ جِراح المجتمع الطَّائفيَّة أو العرقيَّة أو االمذهبيَّة ليكتبوا عنها، أو يصنعوا منها قضيَّة من قضايا الرَّأي العامِّ، ويشغلوا بها المجتمع عن القضايا المصيريَّة أو الجوهريَّة. نعم؛ لم يجبرهم البعث، ولم يملي عليهم عزمي بشارة، ولكن عرف البعث، وعرف عزمي بشارة كيف ينتقي كلُّ واحد منهما جنوده من الكتَّاب والمستكتبين والإعلاميِّين؛ فقد كان عساكر المجرم المخلوع بشَّار الأسد يدمِّرون مع مرتزقتهم الطَّائفيِّن الإنسان والحجر والشَّجر، ويقضون على مقدَّرات الوطن، وكنَّا نقرأ مقالات بعثيَّة عن سقف الوطن وضرورة التَّعبير عن الانتماء له من خلال الوقوف خلف قائده المجرم والتَّمسُّك بهويَّته من خلال دعم المرتزقة أو قبول الانضمام إلى صفوفهم؛ لأنَّ الهويَّة البعثيَّة هويَّة ليست بالهويَّة فوق الوطنيَّة ولا هي بالهويَّة تحت الوطنيَّة، وسمعنا كثيرًا من هذا الهُراء، وقرأنا مثل هذه المقالات المنفصلة عن الواقع، ولم نكن نفهمها، أو لم تكن تؤثِّر فينا على أقلِّ تقدير.
وكذلك سار كتَّاب عزمي بشارة على الطَّريق الأيديولوجيِّ المرسوم لهم بعناية، وما زال كثير منهم يسيرون على الطَّريق ذاته برغم معرفتهم الدَّقيقة بمزالق هذا الطَّريق ووعورته ومخطاره، وخلال الثَورة ضدَّ المجرم المخلوع بشَّار الأسد برزت استحقاقات ومسؤوليَّات كبرى، لا سيَّما في الأيَّام الأخيرة من الثَّورة أو قبيل انتصارها؛ أي منذ انطلاق معركة ردع العدوان، الَّتي كشفت عن تمايز كُتَّاب البعث ومُستكتبي عزمي بشارة الواضح واختلاف أهدافهم عن أهداف باقي السُّوريِّين، حيث ارتفعت أصواتهم بانتقاد توقيت معركة ردع العدوان، قالوا: هذا الوقت غير مناسبة لمثل هذه المعركة، ما أهداف هذه المعركة؟ ولماذا هذا التَّوقيت؟ وحين تقدَّمت جيوش التَّحرير إلى حلب، قالوا: تحرير حلب يكفينا، حلب وإدلب تكفيانا الآن، ثمَّ وصلت جيوش ردع العدوان إلى حماة؛ فقالوا: يجب ألَّا تتقدَّم جيوش التَّحرير أكثر من ذلك، ليس لدينا أو ليس لدى المحرِّرين القدرة على إدارة ما يزيد على إدلب وحلب وحماة، وحين وصلت جيوش الفتح إلى دمشق عرفوا أنَّ نهجهم الأيديولوجيَّ المرسوم لهم لا يصنع واقعًا، وليس لديه أيُّ قدرة على التَّأثير فيه؛ فارتفعت أصوات بعضهم الأوَّل بالدَّعوة المستعجلة لدفع جيوش التَّحرير نحو الجزيرة السُّوريَّة، وراح بعضهم الآخر يطبِّلون لقيادة جيش التَّحرير بطريقة تطبيل الفلول والمكوِّعين ذاتهم، وركب بعضهم الثَّالث الموجة، وسبق الجميع، وكأنَّه كان قائد المعركة، الَّذي خطَّط لها أو قادها.
قل لي أين تنشر وماذا تكتب أقل لك من أنت!
حقًّا لم يكن عزمي بشارة يملي على كثير منهم موضوعات النَّشر؛ لكنَّه عرف كيف ينتقيهم قبل أن يملي عليهم، وعرفوا أيديولوجيا عزمي بشارة؛ فكتبوا بما ينسجم معها، ويتلاءم مع أهدافها؛ لذلك وخلال وقوف الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة أمام استحقاقات كبرى مثل توحيد الجيش وتنظيم منسبي وزارة الدَّاخليَّة والشًّروع بإعادة الإعمار تقرأ لبعضهم دعوات مبطَّنة ومسمومة لتطييف المجتمع السُّوريِّ أو لإدخال سُنَّة سوريا في أتون التَّطييف من خلال الدَّعوة لإنشاء (السُّنِّيَّة السِّياسيَّة) و العطف على (الدُّرزيَّة السِّياسيَّة) لأنَّهم بالحبِّ يريدون إعمار سوريا، ثمَّ تقرأ مقالات ومنشورات أخرى عن ضرورة التَّعاطف مع فلول المجرم المخلوع في السَّاحل أو السُّويداء أو الجزيرة السُّوريَّا لأنَّ المجتمع السُّوريِّ-وبحسب تعبير بعضهم-بحاجة إلى لمِّ الشَّمل، مع أنَّ لم الشَّمل لا يتعارض مع ضرورة محاكمة المرتزقة والخونة محاكمة عادلة؛ لذلك نأمل من هيئة العدالة الانتقاليَّة والهيئات الوليدة الأخرى المعاضدة لها أن تلاحق هؤلاء الفلول المرتزقة، وتلاحق دعوات الخونة الصَّريحة أو المبطَّنة من أجل الحفاظ على الوحدة الوطنيَّة ونسيج المجتمع السُّوريِّ بعيدًا عن صرخات كتَّاب البعث المنفصلة عن الواقع أو ضجيج مستكتبي عزمي بشارة المسموم، ولو أردنا اختصار هذا المقال يمكن القول: (اختيار المرء دليل عقله)؛ مثل اختيار موضوع النَّشر ومكانه وتوقيته؛ ليصحَّ القول بعد ذلك: قلَّ من استكتبك؟ ولمَن تكتب؟ وأين تنشر؟ أقل لك مَن أنت!