الرأي العام

دلالات وقضايا | الأدب والحياة: هموم الحزب الحاكم أم هموم المجتمع؟

ماذا بقي من قصائد الجواهريِّ وسليمان العيسى ذات التَّوجُّه الأيديولوجيُّ المباشر بعد أن أُخرجت من المناهج؟

د. مهنا بلال الرشيد – العربي القديم

دفعني الحراك الثَّقافيُّ النَّشيط في الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة منذ يوم التَّحرير في الثَّامن من كانون الأوَّل-ديسمبر 2024 حتَّى يومنا هذا في مطلع حزيران-يونيو 2025 إلى الكتابة عن العلاقة الوثيقة بين الأدب والحياة؛ وذلك لأنَّ الأدب فنٌّ اجتماعيٌّ النَّشأة ولغويُّ البناء؛ أي هو ابن المجتمع مادَّة ونشأة؛ لذلك يمكن القول: تنخفض قيمة الإنتاج الأدبيِّ المنفصل عن هموم مجتمعه ومشكلاته، حتَّى وإن كانت نصوصه ممتعة أو مسلِّية أو حماسيَّة، وترتفع في المقابل قيمة الأدب الاجتماعيِّ أو الأدب الواقعيِّ الاجتماعيِّ؛ الَّذي يلامس هموم المجتمع، ويطرح مشكلاته بما لدى صاحبه من موهبة وملكات، يكشف من خلالها أدواء المجتمع، ويدعو إلى علاجها، وقد يجترح دواءها، أو يقترح حلولها إن كان موهبته الأدبيَّة مدعومة بفكر مستنير، أو ثقافة عالية تأخذ من كلٍّ علم بطرف.

إذن، فنون الأدب المؤثِّرة كلُّها فنون مجتمعيَّة أو اجتماعيَّة؛ وهذا سيعطي للنُّصوص الواقعيَّة قيمة مضافة، ومادَّة الأدب هي اللُّغة، وهي بنت المجتمع أيضًا، وبهذا يقدِّم المجتمع للأديب أهمَّ لبنتين في فنِّه؛ اللُّغة والمجتمع ذاته؛ وهذا سيجعل من نصِّ الفنَّان مرآة فنِّيَّة تنعكس فيها هموم المجتمع بأسلوب لغويٍّ جميل، يزدان شعره-إن كان نصًّا شعريًّا-بمكوِّنات أخرى غير اللُّغة ذاتها؛ كالنَّغم والموسيقا والوزن والجرس والإيقاع والخيال والصُّورة، ويجذب المتلقِّي بتعرُّجات الحدث وتحوُّلات الشَّخصيَّات وتموُّج الحوار في القصَّة والرِّواية، وويبهر المتابع بعقدة النَّصِّ وتصاعد صراعه ووتأزُّمه الدِّراميِّ في الدّراما والمسرح والسِّيناريو؛ ليعود نَفْعُ الأدب على الأديب والمجتمع معًا؛ ولينصبَّ تأثيره في نفس كلِّ متابع برغم اختلاف الموقف الغنائيِّ الذَّاتيِّ الَّذي ينطلق منه الشَّاعر عن كلٍّ من الموقف السَّرديِّ الموضوعيٍّ الَّذي ينطلق منه القاصُّ والرِّوائيُّ والموقف الدّراميِّ الَّذي ينطلق منه الكاتب في المسرح والسِّينما والدّراما.

لمن نُغنِّي؟

الشَّاعر أكثر إنسان يطرح على نفسه هذا السؤال حين تُخامره القصيدة، حين تختلج في نفسه حروفها الأولى؛ فيقول في ذاته: كيف سأقول هذه الفكرة؟ لمن أقولها؟ ولماذا أقولها؟ وأحيانًا لا تترك القصيدة لشاعرها مجالًا لطرح مثل هذه الأسئلة؛ حين يباغته النَّغم والإيقاع، حين تقتحم العبارة الرَّشيقة شفتيه، ويجتاح الخيال المجنَّح خواطره؛  فيجد نفسه مع القصيدة وجهًا لوجه ودون سابق إنذار يردِّد ما تجود به قريحته؛ فيختار بعد ذلك واحدًا من طريقتين: إمَّا أن يصبر على نصِّه هذا؛ فيهذِّبه، ويراجعه، وينقِّحه، وينمِّيه يومًا بعد يوم بمطالعات وأفكار جديدة، بيتًا إثر بيت، ومقطعًا إثر مقطع؛ حتَّى ينضج، كما تنضج ثمرة الموسم بعد حول كامل؛ فيخرج إلى العلن نصٌّ فيه كلُّ شيء في شيء واحد، وفيه شيٌ عن كلِّ شيء؛ فكرة جميلة، وعبارة عذبة ورشيقة، يطوف بك بين التَّاريخ والجغرافيا، بين الأدب والفنِّ والفلسفة والسِّياسة، يتغزَّل بكلمات عذبة تارة، ويهدِّد، ويرعد، ويتوعَّد بصورة وأخيلة مجنَّحة تارة أخرى، ينتقد عيوب المجتمع بلسان سليط، ويجترح الحلول بحكمة فيلسوف أو طبيب.

والطَّريق الثَّانية، لا يصبر فيها الشَّاعر على فكرته، بل يستعجل قطافها، وينضِّدها في نصٍّ؛ ليعرضها في سوق الخطابة تحت الأضواء، أو بين جماهير المهرجانات؛ ليستمع إلى تصفيق هذا أو إطراء ذاك؛ إنَّه بسلوكه هذا أجابنا على سؤالنا: لمن نغنِّي؟ عندما اختار أن ينشد للمعجبين على الفيسبوك أو جماهير التِّيك توك، ويغنِّي للمصفِّقين في المهرجانات، اتَّكأ على التَّاريخ دون وعيه هنا، واقتبس من نصوص الدِّين ليجذب طائفة من المتلقِّين هناك، فأنشد وغنَّى، ورقص أو تراقص، وبكى أو تباكى على إيقاع التَّصفيق أيضًا؛ لكن نصَّه كما نبت سريعًا سيموت تأثيره سريعًا؛ لأنَّه لم يصبر عليه، أراد له أن يكون أهزوجة لا أن يكون مرآة فنِّيَّة تعكس منهجًا وتجربة عميقة، وتلخِّص حكمة رجلٌ عركته الحياة، وحنَّكته تجاربها. أقول هذا عن الشُّعراء المتميِّزين أمَّا الشَّعرور والمستشعر والشُّويعر فلا أتحدَّث عنهم في هذا المقام؛ لأنَّ الواحد منهم قد يقتحم عالم شاعر آخر؛ فيأخذ وزن قصيدته وإيقاعها، وينظم على منواله بكلمات عصرنا مرَّة، ويبنى نتفة تصلح لمناسبة أو موقف خطابيٍّ مرَّة ثانية، ويكرِّر استهلال شاعر مشهور، وينسج على منواله مرَّة ثالثة؛ فيستضيفه صديقه في أمسية، وينشد على منبر داعمه أو ينشر عنده مرَّة أخرى، ويعدُّ منذ ذلك الحين ظلمًا بين الشُّعراء.

من الالتزام بالأيديولوجيا إلى الالتزام بهموم المجتمع

ركَّز حزب البعث خلال أكثر من نصف قرن في حكم الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة وقيادتها على فكرة الأدب الملتزم، وكان لكُتَّاب البعث فهمهم الخاصُّ بهم لمعنى الالتزام؛ لم يكن الالتزام بطرح هموم المجتمع والحديث عن مشكلاته واقتراح علاج لها؛ كالفقر -وهو أبو مشكلات المجتمع كلِّها- والجهل والأمِّيَّة والجوع والتَّشرُّد والطَّلاق وعمالة الأطفال والكذب والانحلال الأخلاقيِّ والرَّشوة والفساد والمصالح والشّلليَّة وغيرها من الآفات الاجتماعيَّة الأخرى والكثيرة، وإنَّما ركَّز كُتَّاب البعث وصانعو الأيديولوجيا البعثيَّة على الالتزام بمبادئ حزب البعث وفق فهمهم الخاصِّ لها؛ إنَّها الوحدة والحرِّيَّة والاشتراكيَّة، طرحوا هذه الأفكار، ووضعوا قصائد الشُّعراء عنها في المناهج الثَّانويَّة، الَّتي تحدِّد مصير الطَّالب ومستقبله؛ كي يحفظ أشعار الأيديولوجيا لدى محمَّد مهدي الجواهريِّ وسليمان العيسى وعبد الوهاب البيَّاتيِّ، ومن المؤسف حقًّا أن تنتقي المناهج البعثيَّة في الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة نصوص أيديولوجيا للشُّعراء المذكورين بدلًا من أن تختار لنا بعضًا من نصوصهم المشرقة؛ كإشراق دجلة الخير؛ لتعكس هموم الحزب الحاكم لا هموم المجتمع الأخرى، الَّتي ذكرتها قبل قليل، فلا تجد حديثًا عنها؛ ولكن يمكننا أن نسأل الآن: ماذا بقي من قصائد الجواهريِّ وقصائد سليمان العيسى ذات التَّوجُّه الأيديولوجيُّ المباشر بعد أن أُخرجت من المناهج؟ سيأتي الجواب: لم يبقَ شيءٌ منها، وفي المقابل، يرنُّ في أُذني صوت الشَّاعر محمَّد الفراتيُّ برغم استبعاد قصائده من مناهج المرحلة الابتدائيَّة والمرحلة الإعداديَّة والمرحلة الثَّانويَّة؛ ها هو يقول:

سبحان ربِّك كم في الدَّهر من عِبًر!       وكم به من غريبٍ غير مألوفِ!

تمشي المصالحُ في أقلام دولتنا           مشيَ الخنافس في جزٍّ من الصُّوف

إنِّي أُعيذكَ في أدنى دوائرها               من كلِّ ذي إِمرة بالكِبْرِ موصوفِ

يظنُّ أنَّك في حاجٍ إليه مدى              هذي الحياةِ لنقلٍ أو لتوظيفِ

ما إن يرقُّ له قلبٌ عليك ولو              رآكَ تُشنقُ في حبل من اللِّيفِ

كأنَّ رزقكَ معقودٌ به أبدًا                  وربّك البرَّ لم يأمر بمعروفِ

هذه الأبيات من قصيدة محمَّد الفراتيِّ هي الالتزام الحقيقيُّ عند جيل الثَّورة والأجيال القادمة؛ إنَّها الالتزام بهموم المجتمع ومشكلاته، وليست التَّغنِّي بمبادئ الحزب الحاكم، ولا المتاجرة ببعض الشِّعارات الثَّوريَّة الرَّائجة أو التَّغنِّي ببعض العواطف الدِّينيَّة، الَّتي يسهل ترويجها بالاعتماد على العاطفة الدِّينيَّة لا على جودة النَّصِّ الشِّعريِّ ذاته، لا سيَّما إن كُرِّرتْ المتاجرة بمثل هذه الشِّعارات والعواطف في كلِّ محفل، أو أُعيد التَّغنِّي بها في كلِّ مهرجان؛ فعندها سيغدو النَّصُّ المكرَّر ممجوجًا، إن لم يأتِ صاحبه بجديد، وإن أتى بشيء جديد على المنوال السَّابق ذاته، سيفقد رونقه بعد الإلقاء في المناسبة الأولى، إلَّا إن عالج هذا الشِّعر قضيَّة إنسانيَّة، أو استطاع توظيف الشِّعارات والعواطف وجعلها بمثابة المقدِّمة الطَّلليَّة أو التَّشبيبيَّة؛ لينتقل منها إلى مشكلة اجتماعيَّة أو واقعيَّة؛ كأن يتحدَّث عن رعاية الطِّفل اليتيم، أو تكريم ابن الشِّهيد، أو يصوِّر فتك الطَّلاق بالمجتمع والأطفال بعد تفكُّك الأسرة أو تحلُّلها، أو يصوِّر نشاط الفلَّاحين في الحقول وحراك العمَّال في المصانع خلال إعادة الإعمار؛ ليسهم الشَّاعر بنصِّه في رَفْعِ المجتمع من درجة التَّهديم تحت القاع أو دون الصِّفر إلى المجتمع في درجة الصَّفر، وأنا ههنا أستعير من رولان بارت عنوان كتابه: (الكتابة في درجة الصِّفر)؛ إنَّها الكتابة الشَّاعريَّة أو الأدبيَّة، الَّتي تعكس صورة أو أكثر من صور الواقع بأسلوب فنِّيٍّ جميل، وتقترح حلوله بحلِّة قشيبة؛ عندها سيأخذ الالتزام معناه الحقيقيَّ؛ سيصير الالتزام بمشكلات المجتمع معادلًا موضوعيًّا لأيِّ انعكاس فنِّيٍّ في نصوص الأدب الواقعيِّ المشرقة بعيدًا عن المتاجرة بالعواطف الجمعيَّة (الثَّوريَّة أو الدِّينيَّة)؛ فهناك نصوص تُستهلك في مناسبة واحدة، وهناك نصوص يمكن إلقاؤها في مناسبتين أو مهرجانين، وهناك نصوص واقعيَّة تتجلَّى فيها جماليَّات الانعكاس الفنِّيِّ، لا نملُّ من سماعها أو قراءتها أو ترديدها، لا سيَّما إن كان في النَّصِّ-وهذا الكلام ينطبق على القصيدة والقصَّة والمسرحيَّة والفيلم السِّينمائيِّ والمسلسل التِّلفزيونيِّ-رؤية نقديَّة؛ مثل بعض المشاهد في مسلسل: (يوميَّات مدير عامّ)، وبعض لوحات مسلسل (مرايا)، وبعض فقرات (بقعة ضوء)، ومسرحيَّات همام حوت: (ضدّ الحكومة) و(طاب الموت يا عرب) و(ليلة سقوط بغداد)، وقصيدة (يا دار جدِّي) للشَّاعر عبد الرَّحمن اإبراهيم، أو إن حَمَلَتْ هذه النُّصوص رؤيا استشرافيَّة؛ مثل قصيدة (ما لم تقله زرقاء اليمامة) لمحمَّد عبد الباري، أو قصيدة الشَّاعر المرحوم نادر شاليش، وما تزال هذه القصيدة عندي من أجمل النُّصوص في العقدين الأخيرين؛ لما فيها من التزام بآلام الواقع وهموم المجتمع مع انعكاس فنِّيٍّ واقعيٍّ وشفَّاف؛ فيه كثير من الأمل والتَّفاؤل والإيمان بالمستقبل؛ لذلك نختم هذا المقال ببعض أبياتها؛ حيث قال الشَّاعر:

أرسلتُ روحي إلى داري تطوف بها       لمَّا خُطانا إليها ما لها سبُلُ

أن تسأل الدَّارَ إن كانت تذكَّرُنا            أم أنَّها نسيت إذ أهلها رحلوا

أن تسأل السَّقفَ هل ما زال منتصبًا       فوق الجدار شموخًا رغم ما فعلوا

أم أنَّها ركعتْ للأرض ساجدة              تشكو إلى الله في حزن وتبتهلُ

لا بدَّ للَّيلِ من صبحٍ يبدِّده                 ويسطع النُّور والظَّلماء ترتحلُ

ويرجع الحقُّ فوق الكفِّ عالية             راياته البيض لا كفرٌ ولا دجلُ

علائمُ الصُّبح قد لاحت مبشِّرة             لم يبقَ في السَّاح لا عُزَّى ولا هُبَلُ

لن تسكت الحربُ لو ستِّين محولةً         حتَّى يطهّر وجه السَّهل والتّللُ

أغرى بك الفرسُ أن تغدو لنا ملكًا يخلف جبلَّة ما أعيتهم الحيلُ

لكن غباءك أن صدَّقتَ مكرَهمُ            فارجع ففي أوهامكَ الأجلُ!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى