أرشيف المجلة الشهرية

أمين معلوف يكتب عن انشقاق رياض الترك واللاذقاني عن الانتهازية السياسية في سوريا!

في عام 1972، كتب الروائي اللبناني أمين معلوف في صحيفة (النهار) مقالا عن انشقاق رياض الترك عن الحزب الشيوعي السوري الذي يقوده خالد بكداش. العربي القديم تعيد نشر هذا المقال مع تعقيب للكاتب د. محيي الذين اللاذقاني في زاويته (لعبة الأيام).

***

وقع الإنشقاق في الحزب الشيوعي السوري: بكداش يؤكده ويعلن الأسماء

كتب أمين معلوف:

الانشقاق أصبح علنياً أمس داخل الحزب الشيوعي السوري. فقد أصدر الأمين العام السيد خالد بكداش بياناً، اتهم فيه عدداً من قادة الحزب بـ”الانحراف” والقيام بـ “أعمال انقسامية”.

وعلمت “النهار” أن الخلاف، الذي بدأت تتسرب أنباؤه منذ أشهر، انفجر على الصعيد التنظيمي في نهاية الأسبوع الماضي. ففي 21 آذار يوم الجمعة الماضي) عقدت منظمة الحزب في مدينة دمشق مؤتمراً جددت فيه انتخاب يوسف نمر أميناً عاماً لها. وذكرت نشرة “قاسيون” التي تصدرها منظمة الحزب في العاصمة السورية، أن 70 إلى 80% من المنظمة تمثّل في المؤتمر، وأن بكداش لم يحضر، بل عقد في اليوم التالي ” اجتماعا انقسامياً للأقلية.

ويبدو أن اجتماعي دمشق كرستا الانقسام على الصعيد التنظيمي، وعزلا الأمين العام إلى حد كبير داخل الأطر الحزبية، مما دعاه إلى عرض المسألة علنياً في شكل “انقلاب” أو “حركة تصحيحية” ليستفيد من الرصيد الكبير الذي يتمتع به في أوساط الشيوعيين.

أفكار التعصب القومي

وجاء البيان رداً غير مباشر على ما ذكرته “قاسيون”. قال: “إن كتلة مقامرة انتهازية تحريضية، قامت بعمل تخريبي بغية تبديل سياسة الحزب في كل الميادين الفكرية والسياسية والتننظيمية، والشعي لتبديل قيادة الحزب والسيطرة التامة عليه بحجة إخراج العقليات القديمة، والدعوة إلى إيجاد قيادات شابة”. وأضاف: “إن عناصر هذه الكتلة تخلت عن النظرة الطبقية،  والموقف الأممي للحزب الشيوعي من القضايا القومية، وخرجت على اتجاهات مؤتمرات الحزب، وتبنت بدل ذلك أفكار التعصب القومي، أي الأفكار القومية البورجوازية، وبدأت ترفع شعار الحزب الشيوعي العربي الموحد”.

واتهم البيان “الكتلة المنحرفة” بأنها عارضت دخول الحزب الشيوعي السوري، مع حزب البعث العربي الاشتراكي في جبهة وطنية تقدمية في سوريا، كما نادت هذه الزمرة بالابتعاد عن الحزب الشيوعي السوفياتي، وتبنيها بالتدريج مواقف تبدأ بشعار الاستقلال عن الاتحاد السوفياتي، وتنتهي بمواقف معارضة له، كما عملت على التشكيك في سياسة الاتحاد السوفياتي تجاه القضية الفلسطينية.

وطالب البيان كل قواعد الحزب بـ: “الوقوف بحزم ضد هذه الزمرة”. وذكر أن أكثر من 70% من هذه القواعد تؤيده، ولم يشر إلى ما إذا كان معارضو بكداش فصلوا من الحزب.

المعارضون الخمسة

وألقى البيان بعض الأضواء على موقع عدد من العناصر القيادية في الأزمة.

ويبدو أن أكثرية المكتب السياسي، وهو أرفع هيئة في الحزب، تعارض الأمين العام، فمن أصل سبعة أعضاء يعارض بكداش خمسة، هم السادة: دانيال نعمة، ورياض التركـ وإبراهيم بكري، وظهير عبد الصمد، وعمر القشاش. أما العضوان الآخران فهما الأمين العام نفسه، والسيد يوسف فيصل وزير الدولة في الحكومة السورية.

بالنسبة إلى اللجنة المركزية يقول بكداش إن نصفها يؤيده، وقد وقع البيان بالفعل كل من السادة: عمر السباعي، وزير المواصلات السوري، ومراد يوسف وموريس صليبي وخالد حناوي ورمو شيخو وأحمد فاضل. وعرف من الأعضاء المعارضين للأمين العام السيد يوسف نمر. وذكر البيان أن في صفوف مؤيدي بكداش نصف أعضاء لجنة المراقبة الحزبيةـ وخمسة نواب شيوعيين في مجلس الشعب من أصل سبعة، و17 عضواً في المجالس الإقليمية من أصل 24. وتفيد بعض المصادر أن لبكداش أكثرية في محافظتي الجزيرة وحلب، وأقلية في طرطوس ودمشق.

جواب المعارضين

وبرغم أنه لم يرد في الأنباء على لسان المعارضين سوى قول إبراهيم بكري أنه ورفاقه “ملتزمون بمبادئ الحزب الشيوعي ولكننا ضد قيادته القديمة”، فمن المتوقع أن يصدر سياسي في وقت قريب رداً على بيان بكداش.

ويبدو أن المعارضين يرفضون اتهامات بكداش بالانحراف اليساري ومعاداة الاتحاد السوفياتي ومعارضة الجبهة الوطنية في سوريا، ويعتبرون أنها مجرد اتهامات تهدف إلى عزلهم على صعيد الحزب والدولة والحركة الشيوعية العالمية. وتفيد بعض المصادر أن أكثرية المكتب السياسي فوضت أن يقوم بكري بموافقة بكداش في جولة على الأحزاب الشيوعية في محاولة لمنع الأمين العام من “تشويه رأي الأكثرية” باستعمال رصيده الشخصي.

ومن الاتهامات الرئيسية التي يوجهها المعارضون إلى قيادة بكداش، أنها لا تشدد على استقلالية الحزب، وحقه في العمل في مختلف الأوساط، وفي أوساط الطلاب بالذات. ويرى بكداش أن هذا الموقف ليس إلا ستاراً لضرب التحالف القائم، في إطار الجبهة الوطنية، بين الحزب الشيوعي وحزب البعث الحاكم.

ويحمّل المعارضون بكداش مسؤولية الموقف التي أدت إلى تراجع الحزب عن المكانة التي احتلها في وقت ما، ويتهمونه بالجمود والتحجر، وبالسيطرة بشخصه على أجهزة الحزب.

طبعا لا ننفي

وكانت أنباء الصراع في الحزب الشيوعي السوري تسربت منذ أشهر، وكانواضحاً أن ميزانم القوى داخل القيادات يتحول ببطء إلى غير مصلحة الأمين العام، برغم احتلال بعض مؤيديه مناصب مهمة في الدولة. إلا أن الحزب أراد السيطرة على الوضع التنظيمي، فدعا إلى “مجلس وطني عام” للحزب عقد في دمشق أواخر تشرين الثاني 1971، وأصدر بلاغاً لمح فيه إلى الخلافاتـ وقال إنه “ناقش بعض القضايا الفكرية والسياسية والتنظيمية ذات الأهمية الملحة، وأقر بشأنها كلها وبالإجماع التوصيات اللازمة … من أجل أن يتابع الحزب القيام بدوره الوطني والأممي”.

وذكر أن الجميع يجمعون على “الصداقة مع الاتحاد السوفيتي، وإزالة آثار العدوان وضمان حق الشعب الفلسطيني في العودة إلى وطنه وتقرير مصيره، وإيجاد الجبهة الوطنية التقدمية، والدفاع عن النظام الوطني التقدمي في سوريا وتطويره، وتعزيز الاتحاد الثلاثي والعمل من أجل الاشتراكية والوحدة العربية”.

وفي أواسط آذار، نشرت “نضال الشعب” لسان حال اللجنة المركزية للحزب، مقالا بعنوان: (حول أوضاع الحزب الشيوعي السوري في الصحافة اللبنانية) جاء فيه:

” طبعا نحن لا ننفي أن في حزبنا انشقاقاً ديموقراطيا واسعاً يدور منذ فترة”، غير أن المقال نفى أن يكون هناك خلافات حول الموقف من الاتحاد السوفياتي، والعلاقة مع حزب البعث.

في بيروت اتصلت “النهار” بمسؤول في الحزب الشيوعي اللبناني تستفسره عن موقف الشيوعيين اللبنانيين مما يجري في سوريا فأجاب: “.نحن لا نتدخل في شوؤن الأحزاب الشقيقة، وكلنا ثقة بأن الحزب الشيوعي السوري قادر على التغلب على أزمته في هذه الظروف العصيبة، التي نواجه فيها هجمات الصهيونية والإمبريالية والرجعية”

جريدة (النهار) العدد 11268 6/4/1972

وثيقة للتاريخ

         الراوي لبناني والرواية عن الانتهازية السياسية في سوريا

 د. محيي الدين اللاذقاني

 أشهر روائيي العالم كانوا صحافيين، آرنست همنغواي، غابرييل غارسيا ماركيز، واللبناني أمين معلوف الذي بدأ مسيرته من النهار اللبنانية في بيروت، وترك فيها مئات المقالات في مختلف الشؤون، ومنها مقال عن انقسام الحزب الشيوعي السوري في أوائل السبعينات من القرن الماضي.

 وليس في ذلك المقال ذرة من الخيال تليق بالروائي الموعود، لكن قيمته التاريخية كبيرة؛ لأنه يكشف عن العقليات التي رافقت المقبور بالقرداحة، وعملت معه في إطار الكذبة التاريخية التي أطلقوا عليها اسم “الجبهة الوطنية التقدمية”، ولم تكن في الواقع أكثر من جمعية انتهازيين من عدة أحزاب تحالفوا للنصب السياسي، وتقاسم الغنائم بين البعثيين، والشيوعيين، وبقايا الناصريين.

وقد أثبت خالد بكداش الذي يركز على شخصيته ودوره مقال أمين معلوف أنه التلميذ المخلص لحافظ الأسد ونهجه، بل إنه سبقه إلى تكريس التوريث كسياسة للحزب الشيوعي الذي سلّمه، حين مات قبل الأسد بسنوات خمس للأيدي الواصلة عبر وصال.

ولم يخالف حزب بكداش، وهو يحتضر رغبات زعيمه، وأمينه العام الذي ترأسه قرابة الستين عاماً، فوجد بالطرق “الديمقراطية الانتخابية” أن أفضل من يستلم الراية من الزعيم الموشك على الرحيل هي “زوجته، وابنة خاله، ورفيقة دربه” وصال فرحة بكداش التي أكملت سياسة التوريث الشيوعية، بضم ابنها عمار للمكتب السياسي للحزب، ولولا أنها كانت على خلاف حينها مع صهرها، لضمت قدري جميل إلى قائمة الوارثين.

ولن يعترف الشيوعيون “البكداشيون”، من هنا إلى قيام الساعة، بأن الخلافات بين الصهر قدري، وحماته وصال فرحة كانت من ضمن الخلافات الحزبية الداخلية، خصوصاً بعد أن قرر قدري جميل “المعارض الموالي” أن يغيظ حماته، وأن يلعب لحسابه، ويشكل حزب “الإرادة الشعبية” الذي صار سُلمه بعد بكداش؛ ليصل إلى منصب نائب رئيس الوزراء، في عهد السفاح الابن الذي رتّب له مقلباً؛ ليظهر أمام أنصاره هزالته وانتهازيته.

ولعل السوريين يذكرون أن قدري جميل سمع بخبر طرده من الوزارة على الهواء مباشرة، وكان في مقابلة تلفزيونية مع قناة عرّابه الروس “روسيا اليوم”، حين سألته المذيعة عن سبب إقالته التي لم يكن قد سمع بها، فقال لها، وبلاهة الانتهازيين في عينيه: “أنا، والله ما سمعت شي من ساعة دخولي الإستديو، معلوماتك أديش عمرا؟

والإحراج ليس هنا فقط، بل في أسباب الإقالة، فقدري جميل أول وزير، ونائب رئيس وزراء في العالم يُقال، مثل أي موظف صغير؛ لتأخره عن العمل دون مبرر، ولولا بعض الخجل من نظام لا يخجل، لقالوا: لقد أقلناه؛ لعدم توقيعه على دفتر الحضور، والغياب! فالأخلاق لم يكن لها وجود في السياسة السورية، منذ قيام الحركة التخريبية التي يسمونها زوراً ب “الحركة التصحيحية” التي سبقت حركة بكداش التصحيحية في حزبه بعامين ونيف.

وقد حفظ لنا أمين معلوف في مقاله التاريخي عن انشقاق الحزب الشيوعي السوري عينات من لغة الرفيق المناضل خالد بكداش التي تقارنها بلغة حزب البعث، فلا تجد اختلافاً بين ما قاله المقبور بالقرداحة عن رفاقه الذين سجنهم، حتى ماتوا في زنازينهم، وبين اللغة التي استخدمها زعيم الحزب الشيوعي، بحق الفصيل الذي صار يُعرف لاحقاً باسم “الحزب الشيوعي-المكتب السياسي” وفيه أبرز مناضلي الحزب كرياض الترك، ودانيال نعمة، وعمر قشاش، وظهير عبد الصمد، وإبراهيم بكري.

وبحسب بيانات بكداش، عقب الانقسام، فإن الذين انتفضوا ضده، ورفضوا قيادته، بعد ست حقب من التحكم الفردي بالحزب ما هم إلا “كتلة منحرفة” مقامرون، انقساميون، متعصبون قومياً، ومتشربون بالأفكار البورجوازية، تخلوا عن الموقف الأممي، والنضال الطبقي، يُعادون الاتحاد السوفياتي، ويرفضون التحالف مع حزب البعث، والانضواء في الجبهة الوطنية التقدمية.

لقد تعلم بكداش من حافظ الأسد الكثير، وربما العكس، فالنخب السياسية السورية في السبعينات بيمينها ويسارها كانت، ولا تزال إلى اليوم متشابهة في الأساليب، والأفكار، ولا ترى النضال إلا طريقاً للسلطة، والمغانم والمكاسب، أما خدمة الشعب، والنهوض بالوطن، ورفاهية مواطنيه، فآخر ما يخطر لها على بال.

لذا يجب أن يتذكر من يكتبون التاريخ السوري الحديث إن الخراب الحقيقي في سوريا ليس الدمار الذي خلفته البراميل، وقصف الطائرات، والأسلحة الكيماوية في سوريا بعد الثورة فقط، فالخراب الحقيقي بدأ، قبل ذلك بزمن طويل على يد نخبة من الانتهازيين الكبار الذين تواجدوا بنسب مختلفة في جميع الأحزاب.

________________________

 من مقالات العدد التاسع من مجلة (العربي القديم) الصادر عن شهر آذار/ مارس 2024

زر الذهاب إلى الأعلى