
براء الجمعة – العربي القديم
قد يبدو سؤال “من هو المعلم الحقيقي؟” سؤالًا بسيطًا في كوكب يعج بالألقاب والمسميات الوظيفية، لكن الغوص قليلًا في أعماق هذا المفهوم يكشف أن الإجابة تتجاوز بطاقات العمل والمناهج الرسمية. فالمعلم الحق، ليس مجرد ناقل لمعارف مُعلبة أو مُلقّن لإجابات جاهزة، بل هو شاهدٌ صامت على بذور النمو، ورفيقٌ مُلهم في رحلة الاكتشاف، قد يكون مُيسِّرًا روحيًا يُرافق مخاض الذات الحرة من براثن التلقين والخضوع.
المعلم الحقيقي لا يتوهم امتلاك عصا الحقيقة السحرية. لا يتربع على عرش المعرفة المطلقة ناظرًا إلى تلاميذه باستعلاء، وكأنه حارسٌ أمين على كنوز اليقين. بل، على النقيض من ذلك، يستوطن بتواضع قلب العارف بجهله، ويتصالح مع نقصانه الإنساني، ويُجيد محاورة الشك لا قمعه، ومساءلة أدواته لا التباهي بها. إنه من تلك الفئة النادرة التي تدعوك بإنصات لتنتقد أفكارها، لا لتكررها بببغائية. يُشجعك بشغف على أن تُشكّل وعيك المستقل بذاتك والعالم، بدلًا من استيراد وعيه الجاهز.
وحين نتفكر مليًا في جوهر “التربية”، نكتشف أنها في عمقها ليست مجرد عملية حشو معلومات، بل تمرينٌ دائم على فنّ المقاومة. مقاومة القوالب الجاهزة التي تُساق إلينا باسم التعليم، مقاومة الترويض الذي يُخمِد جذوة الفطرة النقية في دواخلنا، مقاومة كل منظومة تسعى لإقناعك بأن التكيّف الأعمى هو سبيل النجاة الوحيد. المعلم الحقيقي يغرس فيك بذرة “لا” الواعية قبل أن يُعلّمك كيف تنطق بـ “نعم” عن قناعة. يربّيك على أن تُصوغ لغتك الخاصة بك، بدلًا من ترديد صدى كلماته.
ليست غاية المعلم الحق أن يحملك أوزار ما يراه هو صوابًا، بل أن يُخفف عن كاهلك ثقل ما لم تختره روحك أصلًا. التربية هنا ليست إضافة قسرية، بل “تخليةٌ” ضرورية، كما أشار الإمام الغزالي في تقسيمه لطريق الحكمة إلى “تخلية، ثم تحلية، ثم تجلية”. والمعلم الحق يبدأ بالخطوة الأولى: أن تنفض غبار التلقين عن مرآة ذاتك، وأن تتحرر من أدران التنميط القاتل للإبداع، ومن الأصوات الدخيلة التي سكنت فيك ولم تكن يومًا لحن روحك.
هو لا يتوهم أن مهمته “إرشادك” إلى حقيقة مُعلبة ومُؤرخة في رفوف ذهنه، بل يخلق لك المساحة الآمنة لتُبصرها بحدسك الخاص. لا يُريدك ظلًا باهتًا له، بل نورًا ساطعًا ينبع من أعماقك. ومن هنا، فإن جوهر التعليم الحقيقي ليس في امتلاء وعاء المتعلم بالمعلومات، بل في تنقيته من الشوائب التي تحجب رؤيته. وكما قال الإمام عليّ بحكمة بالغة: “ إنَّ هذه القلوبَ أَوْعيةٌ، وخيرَها أَوْعاها للعلمِ ” – أي أكثرها استعدادًا للاستقبال الواعي والفهم العميق.
المعلم الحقيقي لا يُقدّم أجوبة نهائية تُسكت التساؤل، بل يُزعزع الأسئلة الجاهزة التي تُعيق التفكير. لا يُعلّمك كيف تفكر، بل كيف تفكر بمنطق نقدي وبصيرة نافذة. يقترب في دوره من مُعينٍ يلازم مخاض فكرك في كل لحظة ولادة فكرة جديدة، أو صحوة ضمير غافٍ، أو سقوط قيدٍ عتيق كان يكبل روحك. يرافقك بصبر وأنت تنتقل من “الذات الأصغر” المُقيّدة بالخوف والتبعية، إلى “الذات الأوسع” المُتحررة والمسؤولة، من نسخة مشوهة لما أرادوا لك أن تكون، إلى ملامحك الأصلية التي كادت ضوضاء العالم أن تُنسيها إياك.
وحين نتأمل في أدوار بعض من نُصبوا “معلّمين”، نجد صنفًا منهم يُقدّم نفسه كمرجع مُطلق لا يُقبل فيه النقاش، كظلّ لله على الأرض، يستصغرك لمجرد أنك تسعى للمعرفة. وهنا يتحول التعليم إلى ضرب من ضروب السلطة القمعية، لا إلى صحبة مُلهمة. لكن المعلم الحقيقي يدعوك دائمًا إلى استكشاف ذاتك الحقيقية، لا إلى الانبهار بذاته. هو الذي يدرك بعمق حكمة القائل: “أشد الناس جهلًا من ترك يقينه بيقين غيره”، لذلك لا يطلب منك الطاعة العمياء، بل الصحوة الداخلية واليقظة الفكرية.
وفي تراثنا العربي الزاخر بالحكمة، عبارات عميقة رسمت هذا المعنى ببصيرة نافذة. فحين قال الإمام الشافعي بتواضع جم: “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”، لم يكن يُقدّم درسًا في التواضع فحسب، بل في جوهر التعليم المتواضع: أن نتحاور بنديّة لا أن نتصارع بغطرسة، أن نتقاطع في وجهات النظر لا أن يبتلع أحدنا الآخر.
المعلم الحق لا يرى المسافة بينه وبين تلميذه فجوة جوهرية، بل هي فرق في درجة التجربة لا في طبيعة الإنسانية. فالتلميذ عنده مشروع أستاذ مُحتمل، والأستاذ عنده تلميذٌ دائم يسعى للنمو والتطور. يُذكرنا هذا بالقول المأثور عن سقراط، حين نطق بجملته الخالدة: “أعلم أني لا أعلم”، وهو القول الذي جعله في صدارة حكماء الفلاسفة، لا لأنه استوعب كل المعرفة، بل لأنه امتلك شجاعة الاعتراف بحدود علمه.
أما إذا أردنا تجسيدًا حيًا للمعلم كدالّ على المعنى الحقيقي للتربية، فحسبنا قول الإمام محمد عبده حين سُئل عن سرّ تأثير أستاذه جمال الدين الأفغاني العميق، فأجاب ببلاغة: “ما تعلّمت منه شيئًا جديدًا، بل تعلّمت كيف أفكر فيما أعرف”. وهذه العبارة، وحدها، كافية لتقويض أبراج التعليم القائم على التلقين الأجوف، وبناء صرح جديد شامخ يقوم على الاكتشاف الذاتي والتفكير المستقل.
المعلم الحقيقي ليس نبيًا مُرسلًا بوحيٍ إلهي، لكنه يستلهم شيئًا من نور الهداية الذي حملته الرسالات النبوية، فهو يسعى بدوره لنقل الإنسان من غفلة مُطبقة إلى وعي مُنير، ومن انقياد أعمى إلى مسؤولية واعية، ومن تبعية مُذلة إلى حرية مُستحقة. إلا أنه – اقتداءً بسنن الأنبياء في دعوتهم إلى التفكر والتدبر – لا يأمرك قائلًا “اتبعني” اتباعًا أعمى، بل يدعوك بهدوء إلى استخدام بصيرتك: “انظر إلى أعماق نفسك، فقد تجد فيها كنوزًا من الفهم والحكمة لا تراها بالضرورة في تقليد الآخرين.
وعليه، فإن أثره الأبقى لا يكمن في المعلومات التي يلقنها، بل في سؤاله المفتوح الذي يُحفز التفكير، وفي صمته المُلهم الذي يدعو إلى التأمل، وفي حضوره الذي يدفعك لأن تكون أكثر صدقًا وجرأة مع ذاتك، تمامًا كما قال الإمام ابن عطاء الله السكندري في حكمته البليغة: “ربّ ساكت أفصح من ناطق”. فالمعلم الحقيقي قد يصمت ليمنحك الفرصة الثمينة لتسمع صوتك الداخلي العميق.
هو لا يصوغ لك الحلول الجاهزة، بل يحولها إلى أسئلة حافزة تدفعك للبحث. لا يُقدّم لك الطريق المُعبد، بل يضع مرآة صافية أمام قدميك، لتُبصر بوضوح أي درب تختار لنفسك. هو يحطم يقينك الزائف لتبني يقينك الحيّ النابع من تجربتك ووعيك، تمامًا كما ألهمنا المتنبي بقوله الشامخ: “إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ، فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ”.
أما أعظم ما يصنعه المعلم الحقيقي، فهو تحريرك من أوثانٍ صُنعت باسم العلم الزائف، وتقاليد بالية قُدّست باسم التربية الخانقة، ومسارات نمطية طُبعت في النفس باسم النجاح المُزيّف. إنه لا يزرع فيك خريطة طريق جامدة، بل يُطلق فيك بوصلة داخلية حرة تُوجهك نحو اكتشاف مسارك الفريد.
وفي زمن باتت فيه المعرفة سلعة تُشترى وتُباع في أسواق التعليم الرخيص، وتحوّل فيه التعليم إلى صناعة جماهيرية تهدف إلى التنميط، يبقى المعلم الحقيقي نادرًا كجوهرة ثمينة، لكنه أعمق أثرًا في نفوس تلاميذه. فهو الذي ينقذك ببراعة من الغرق في وفرة المعلومات السطحية، ويقودك بحكمة إلى شحّ المعنى العميق.
هو الذي لا يعيد إنتاج نسخ مُكررة من الإنسان، بل يساعد كل فرد على أن يُعيد اكتشاف ذاته الأصيلة. لا يصنع لك اسمًا لامعًا، بل يمنحك جرأة أن تُعرّف نفسك للعالم بصدق وشجاعة. في عينيه الثاقبتين، لا يوجد تلميذ صغير أو كبير، بل إنسان ينمو بوتيرة فريدة، ويتعثر في طريقه، ويطرح الأسئلة الوجودية، ويبحث بشغف عن طريقه الخاص في هذه الحياة، وهذا وحده يكفي ليوقظ فيه الاحترام والتقدير.
فهل نصادف معلمين من هذا النوع النادر اليوم؟
ربما قليلون هم، لكنهم موجودون حتمًا. ليسوا دائمًا خلف أسوار المدارس التقليدية، ولا يحملون بالضرورة شهادات جامعية مُعلّقة على الجدران، لكننا نعرفهم بيقين حين نلتقيهم: لأنهم يوقظون فينا شيئًا ثمينًا كدنا ننساه في زحام الحياة. شيئًا لا اسم له سوى الحرية الداخلية، حرية التفكير، وحرية الاختيار، وحرية أن نكون ذواتنا الحقيقية.