فنون وآداب

نصوص أدبية || أنطاكيا مُدللة العرب.. مُدَمرَةُ التاريخ

نص: وافي الشيخ خليل

في أنطَاكِي..

تحتَ لكنةِ اللّسان الأنَاضولِيّ…

والمزيج العربيِّ التُركيِّ

أو في أنطاكِيا

علَى لسانِ جَالِيتنا مِنْ أبناءِ الحربِ وغيرِهِم…

لم يَعُدْ هنالِكَ نبضٌ للحياةِ

استُبِيحَتْ المدينَةُ بالرّكامِ

ركامٌ مصبُوغٌ بالدّم

في كلِّ مكانً وركنٍ

الرّحالةُ أعلنوا حِدادَهم

لبِسُوا الثّوبَ الحالِكَ

ونَعَوا التّاريخَ.

لوحة تجسد بقايا دمار أنطاكيا بسبب زلزال عام 526

لامكانَ للعشّاقِ بعدَ جُرمِ الأرضِ

الموتُ عَلا على رائحةِ المذاقِ الشّعبيّ الرّائجِ

الكُنافةُ ذائِعةُ الصّيتِ

دُفنَتْ تحتَ أنقاضِ الكارثةِ

أصحابُ الأيادي الخَبيرةِ أصابهُم اليأسُ

الباحثينَ عن الجمالِ

قلّبوا كفوفهُم بدهشةِ العاشقِ المَغلُوبِ

التّاريخُ يبكي نكبتهُ الصّارمةَ

يريدُ أن يُرمّمَ نفسهُ وينهضَ مجدّداً

يريدُ أن يُعيدَ أمجادَهُ

من جذبِ القلوبِ واستِئثارِها

لكنّ ذلكَ أصبحَ عملاً شاقّاً

أمامَ ذلك الحجمِ الهائلِ من الدّمارِ…

فلا معالِمَ حضاريّةَ بعد انتِفاضَةِ الأرضِ

لا بيوتَ عُمِّرتْ وفقَ الطّرازِ الدّمشقيِّ

لا إرثَ عتيقَ ولا أحجاراً أثريّةً

لا أسواقَ شعبيّةً قديمةً

لا مساجدَ عريقةً شُيّدَت على أيدي الملوكِ

ولا معابدَ للقدّيسينَ

كلّ شيءٍ قُطِّغَ إلى أشلاء

ثمّ غاصَ في عُمقِ الأرضِ.

لقطة جوية لأنطاكية بعد زلزال السادس من شباط 2023 (وكالة الأناضول)

في أنطاكيا…

دقّتْ ساعةُ الاحتضارِ بغتَةً

زُلزلَتِ الأرضُ تحتَ أقدامِ الحالمِين

ولن تشفعَ لأحدٍ

مِن ثمّ…

أقبلَ الموتُ محتدّاً

وانتُزِعَتِ الأرواحُ بالجُملة

لم يَعُد هنالكَ متّسعُ جرحٍ

في وجهِ المدينةِ

كلّ شيءٍ أصبحَ بطعمِ الدّمِ

فاللّونُ الأحمرُ تفوقَ عَلى جَميع الألوان

مرّةً أخرى…

إهتزّتِ الأرضُ بغضبٍ كارثيٍّ..

فاستَحوزَ الموتُ بجدارةٍ

دُفِنَت آمَالُ مَن انتظرَ يداً بيضاءَ

داخلَ قُضبانِ الحديدِ الصّلبِ

والأعمدةِ الخرسَانيّة المُنهَارةِ

أحكمَ الموتُ قبضتَهُ

فَسُحِقتْ آمالُ فِرقِ الإنقاذِ…

وتلاشَى حلمُ الإنتِشالِ

زُهقَت الأرواحُ…

ولم ينجُ حتّى مَن استطاعَ النّجاةَ

نُثِرَتِ الجُثثُ على الأرصفةِ

وتكدّسَت بداخلِ عرباتِ الدّفنِ

حُوصِرت أنطاكيا بالفَاجِعةِ

وأستسلمَتْ لِمرارَتِها

آلافُ الأرواحِ استَقبلتْها السّماءُ

لم تنتهِ غزارةُ الموتِ

ولم تتوقّف المأساةُ عِند هذا الحدِّ

ازدادَتْ وَحشيّةً…

حينَها…

طمَسَ الظّلامُ المدينةَ

واقتَحَمها الصّمتُ المُفزِعُ

أمطرَ الشّتاءُ بردَهُ القَارِسَ

ونخرَ قلوبَ الباحِثين عنْ الأمْنِ

عفّنَت أجسادُ الهالِكين تحتَ الحَجرِ

وتبعثَرتْ رائحةُ الموتَى في كلّ مكانٍ

الطّبِيعةُ العَطِرةُ لُوِّثَتْ برائحةِ الكارثةِ

مياهُ العَاصي صُبِغَتْ بلونِ الدّمِ

شقّ وجهُ المدينةِ إلى نصفَينِ

سُلِبَ الجمالُ من المدينةِ

وانتَهَت حكايَتُها معهُ.

أنطاكية بعد إزالة الأنقاض واختفاء أحياء وشوارع بكاملها

في أنطاكيا…

لا نصَّ يَصِفُ ما نجمَ عن ضوضَاءِ الأرضِ

ولا رثاءَ يُكتَبُ أمامَ حجمِ الخَساراتِ

أنطاكيا..

أُمّ الطبيعةُ السّاحرةُ

وملجأُ المُضطَهَدينَ من ويلاتِ الوغَى

مُدلّلةُ العربِ وبوابةُ السّاحلِ الأبيضِ

ذاتَ صباحٍ 

استفاقَت على احتراقِها

الطّبِيعةُ لمْ تَعُد تُزهِر

لهيبُ الموتِ شوّهَ الوردَ

العشاق

لبسَ الحزن قلوبَهم

وأعلَنوا حِدادَهم

أُخمِدَت..

لكنّها لمْ تَعُد كَما كانَت…

فبعدَ انفجارِ الجَحِيمِ مِن باطنِ الأرضِ

 قالُوا أنها أصبحَتْ خاويَةً على عُروشِها

قالوا أنَّها أصبحَت أرضاً مُستويةً

وحرفيّاً كانَ ذلك…

في أنطاكيا المَنسِيّةِ …

انتَظرَ المنكوبُون ارتداءَ ثوبِها القديمِ

لكنّ أحداً لم يعبَأ بجُرحِها..

يتسَاءلُ السّاءلونَ اليومَ

أليسَ عيباً…

أنْ تبقَى أنطاكيا مُدمَّرَةَ التّاريخِ المَنكوبَةِ

أليسَ عيباً…

ألّا يُرَمّمَ الجمالُ ويُحفَظ التّاريخ.

زر الذهاب إلى الأعلى