وداعاً أورينت: قناة المفاجآت والاتهامات
نوار الماغوط
في زمن الأقنية التي تخفي الحقائق وتجفف الغسيل مع وسخه بالمجففات الكهربائية في استوديوهاتها، قرر رجل الأعمال السوري ومالك قناة أورينت السورية المعارضة غسان عبود، بشكل مفاجئ إغلاق القناة بشكل كامل ونهائي، وذلك في غضون نهاية العام الحالي. قرر إيقافها عن نبش الغسيل الوسخ ونشره في الهواء والشمس كي يراه الناس.
يُعتبر قرار إغلاق “أورينت” خطوة مفاجئة، حيث كانت القناة من بين القنوات السورية المعارضة الأقوى، وقد انتقلت من دبي إلى إسطنبول في عام2020 ، بعد توقف بثّها التلفزيوني الفضائي المفاجئ أيضاً. فقد كانت هذه القناة تعيش مفاجآت متلاحقة من داخلها، لا تقلّ عن مفاجآت الحدث السياسي الذي كانت تتابعه بضراوة، ضاربة عرض الحائط، تحت سيف الضرورات التي تبيح المحظورات، الكثير من القواعد المهنية، كما الدول المتحاربة التي ضربت الكثير من قواعد خطوط الاشتباك ومعاملة الخصوم في الحروب.
ربما قرار الإغلاق أكبر من القناة نفسها، خاصة أن القرار لم يكن بتحديث تقنيات القناة، أو تطوير أساليبها الإعلامية التي تحولت في الآونة الأخيرة إلى ملاحقة لاهثة ومشكورة للحدث، وإعادة اجترار غير مشكورة لمتداولات السوشال ميديا، في غياب الرؤية البرامجية والنقدية، والابتكارات التي كانت تقدمها القناة بين الحين والآخر، ولكن القرار بالإغلاق جاء علاجاً غير ناجع، لحالة تستحق الاستمرار والتطوير والبحث عن المعافاة. مؤسف أن تخسر أورينت المباراة الإعلامية التي نأت بنفسها عن أن تخوضها، مع باقي القنوات الإعلامية العربية الممولة جيداً، والتي استطاعت “أورينت” بميزانيتها المنخفضة، وكادرها الشبابي المتعثر حيناً، والممتلئ بالحماس والحيوية حيناً، التفوق عليها. فهل ترون – والحال هذه – كم المال المهدور، والفساد المنشور في باقي المحطات!
بيد أن قناة أورينت ستطوي صفحاتها، كما يطوي العام 2023 صفحاته، لتتحول لمجرد ذكرى، وقد أصابت ما لم تصبه إمبراطوريات إعلامية من الانتشار، وسيتيح غيابها السيطرة الشاملة على الرأي العام المتوافق مع رياح التطبيع مع النظام السوري، وقد يكون المهم هو دراسة كيف فشلت أورينت في الاستمرار، مثل أخواتها غير الشقيقات، كتلفزيون سوريا والعربي والعربي تو وغيرها. هل هو قرار خاطئ من صاحب القناة، لأنه تركها بسياقها الطبيعي الانفعالي المؤدي للفشل، في وقت يئس الناس من الكلمة وتأثيرها، أم أن الفشل كان قدراً مكتوباً، وضغوطات مفروضة على كل من ينقل الواقع، كما هو، ويخلط بين نبل الهدف، وعنف طريق الوصول إليه؟!
.باستثناء نيف من الأشخاص الذين التحقوا مبكراً بالقناة في بداية الثورة، ونقلوا أخباراً وأرسلوا مقاطع مصورة، وأدوا أدواراً تهريجية؛ لاعتقادهم بأنهم ينقلون مطالب المتظاهرين، ويعممون بعض اللافتات التي لو أدركها الشعب السوري ربما ما انحرفت الثورة، في وقت اشتدت، وتمكنت هذه الشعارات، فإن أورينت حافظت إلى حد كبير على مصداقية الأخبار، وخصوصاً حين كانت تنقل أخبار قتلى النظام “الأرقام” بالنسبة له، والتي كان يعتم عليها… بالمقابل اشتدت معها ردة فعل النظام، ولكن بالرغم من أن أورينت لم تكن حيادية، كونها قناة معارضة ولها موقف سياسي، ولكنها دائماً ما حاولت أن تكون الأكثر موضوعية، والأقرب للشعب السوري، والسماح لكتاب الرأي بالكـتابة التي في أكثر الأحيان لا تتفق بالضرورة كتاباتهم مع السياسة التحريرية للقناة.
لـِ “أورينت” أخطاء وسلبيات كثيرة: أبرزها محاولة تلميع وجوه لا تملك مقومات مهنية للاستمرار، ولكنها بكل الأحوال ظلت تمثل رأي الشارع السوري الذي لكل منا تقييمه الخاص تجاهها، فقد تكون القناة الوحيدة المعارضة لنظام الأسد التي وُلِدت من رحم الثورة، ولم ترضع من ثدييها. صحيح أنها بدأت قبل الثورة بعامين، لكن عندما اندلعت الثورة كانت ولادتها مكتملة، وكان تفاعلها مع الثورة تفاعل مؤسسة إعلامية، مع حدث كبير ومزلزل كهذا، وليس محاولة لركوب موجتها، كما فعلت قنوات أخرى ظهرت وانطفأت، أو ولدت مشوهة ومنحرفة، وهي تريد أن ترى الثورة بمنظار الدولة الممولة، وعقد ورغبات العرّاب الإعلامي وإملاءاته؛ لذلك كان لأورينت موقف حاد وتشهيري، تجاه كل من تسلّق على الثورة واستخدمها مطية لمصالحة الشخصية. كان لديها إحساس، أو لدى مالكها كما ظهر في مقابلاته، أنها المرجعية في الكشف عن ثورية الآخرين، ورغم أن بعض ضرباتها وحملاتها كانت محقة، إلا أن القناة انزلقت أحيانا كثيرة في توزيع الاتهامات بغوغائية وتلقيها، سواء ممّن رأى في الثورة وسيلة للخلاص من عقده السابقة التي اكتسبها من نظام السرقة والنهب والفساد، أو من سعى لحرف مسار الثورة، وإفشال أهدافها في تحقيق طموح الشعب السوري في إسقاط النظام، وبناء دولته المدنية والديمقراطية.
كلّ من تعامل مع أورينت من الإعلاميين أدّى دوراً فيها، سواء أكان سلبياً أم إيجابياً.. كان متاحاً للعنصر الجيد أن يقدم نشاطاً جيداً، وللعنصر الرديء والفارغ أن يقدم أداء يشبهه، وهذا “المتاح” كنا نراه على الشاشة، أو في البرامج، أو في التقارير الإخبارية، حيث تتبدل وجوه العاملين كما تتبدل إدارات القناة التي كانت تشتكي من مزاجية مالكها، لكن بكل الأحوال كان هذا كله “هامش حركة”، بل “حراك” إعلامي، بعكس باقي الأقنية التلفزيونية المتكلسة منذ ولادتها، والتي تحمل أجندتها النمطية الواضحة، والمخطط لها منذ سنوات، لتخدم أجندات الدول التي تنفق عليها، وعلى مراكز البحوث والدراسات التابعة لها. مليارات الدولارات أنفقت، لتجعل من الرأي الزائف حقيقة، ولتجعل من الحدث سلعة للربح، ومن الرأي الآخر بضائع كاسدة في المستودعات.
يتهم بعضهم أورينت في منصات الإعلام أنها ليست حيادية وطائفية، وهل المشاهد حيادي وغير طائفي، ليستطيع تقييم ما عجزت عنه مراكز البحوث والدراسات، في تقييم ماهية السوريين وتوجهاتهم، وتحليل ما يضمرونه وما يعلنونه بخصوص مثل تلك القضايا، ومن أبرزها الشعار الأشهر “واحد واحد واحد الشعب السوري”، وهو شعار بالمطلق لم يكن صحيحاً… فالشعب السوري واحد واحد واحد في المعاناة والألم والقهر، أما أنه “واحد” من الوحدة الوطنية، فهي حقيقة، ولكن وهمية، ولأن الحقيقة تجلب الألم، لذلك تعلم الناس الكذب!
من أقنع الجماهير العريضة، وأفهمهم أن الجزيرة، والعربية والحرة، وتلفزيون سوريا، والعربي الجديد هي الأقنية والمنابر المتفوقة والمقبولة في العالم العربي، أم لأن “صوت أميركا.. وصوت شركائها” في صفقة القرن هو المتفوق والمقبول؟!
ومن أقنع العالم، حتى يقولوا إن العرب لا يشاهدون قناة أورينت لأنها طائفية، رغم أنها كقناة تلفزيونية وموقع إلكتروني ومنصات تواصل اجتماعي، كانت من أكثر وسائل الإعلام متابعة من الجمهور السوري، ولكن ربما ليست الأكثر تأثيراً!
من أقنع العالم حتى الاعتقاد، أن تركيا تهتم باللاجئين السوريين، وتسعى لعودتهم الى بلادهم بشكل طوعي كما تقول الجزيرة وتلفزيون سوريا، بينما القناة التي يتهمونها بعدم الحياد تقول إن تركيا تمارس العنصرية عليهم، وتنفذ خطة لطردهم من تركيا، ليصلوا إلى خيامهم على الحدود، أو إلى سجون تدمر وصيدنايا وفرع فلسطين، وبينما كانت الجزيرة والعربية تغطي التفاصيل الميدانية لطوفان الأقصى في غزة، وما تبع هذا من متابعة على مدار اليوم واللحظة، من نقل شامل لتصريحات للمتحدثيين باسم الجيش الإسرائيلي ولقيادة حماس، ونقل مشاهد القتل والدمار في قطاع غزه كانت «أورينت» في وادي السوريين الآخر، الوادي الذي ينقل أخبار احتجاجات السويداء، ومطالب السوريين التي لن تنطفئ، إلا بسقوط النظام… يبدو أن أورينت أغلقت، وبقي النظام، وبقيت الجزيرة، والعربية والحرة، وتلفزيون سوريا مع بقاء النظام.
وداعاً أورينت.. فقد مضى الخبر إلى حال سبيله!
شكرا استاذ نوار على المقال
لكن لماذا لا تباع قناة اورينت أفضل من إغلاقها
يوجد سوريون قادرون على تحمل تكاليفها
مقال يلقي الضوء على الدور المناط بالمؤسسات الاعلامية و الفكرية في فضاءنا السوري و ارتباط هذه المؤسسات بالجهات المحمولة لها و ارتهانها قضايا الوطن و الانسان السوري لصالح المال السخي القادم من هنا و هناك و من خرج عن ذلك مصيره الاغلاق و الأورينت نموذجا
مقال وافي حول دور محطة الاورينت ومنصاتها في مواكبة الثورة كأول منصة تلفزيونية واكبت يوميات الثورة منذ الايام الاولى وما رافق تلك المسيرة من انتقادات و مواجهات وهجوم من جهات متعددة..
فعلا يؤسفنا خروج الاورينت من المشهد الاعلامي كأحد أهم منصات ناطقة باسم ااثورة.
مقال جميل تضعنا بقلب الحدث لندرك الحقيقه شكرا لمقالاتك الجميله استاذ نوار
خسارة لن نسمع ” صوت لشعب ” بعد الآن ومازلت فضاءات إعلامية يعلم الجميع إلى أين ستأخذنا”