اللاذقية في مواجهة الثورة
زيد بن رغبان- العربي القديم
معرفتي بمدينة اللاذقية محدودة، رغم وجود أقرباء لي، ولم تكن تتعدّى الإقامة فيها لأيام، كل عامين أو أكثر؛ بسبب عمل ما، أو مناسبة اجتماعية أو واجب. لكن مع العام 2011 ازداد اهتمامي بها لحساسية وضعها السياسي والطائفي؛ لأني من الناس الذين يعملون بمنطق المراقبة المباشرة، وليس عبر القيل والقال، والسوشيال ميديا، وغيرها ورغم أني لست شجاعاً، لكني أعشق الاحتكاك بمثل هذا الواقع عقلاً وقلباً، وتعددت الزيارات والتعاون مع شباب يحدوهم الأمل بالتغيير.
كنت أستطلع بهدوء، وغالباً اجتمعت مع جميع معارفي وأقاربي، ومنهم المثقف والمتعلم والجاهل، والمتلوّن بين بين، والواضح (سلباً أو إيجاباً)، إلى أن حصرتها بالمؤمنين بالثورة والتغيير، أطالبهم بالبقاء في اللاذقية، والفعل والأداء فيها، لكن عبث!
اليوم أسامحهم؛ لأنهم كانوا أكثر درايةً مني بوضع اللاذقية وريفها، وأنا كنت متفائلاً بشيء من الوهم.
واحدة من كبرى أخطائنا أننا أردنا أن تكون سوريا ساحة واحدة، بلا خصوصيات للمناطق والدساكر، وهي الحالة التي تتصف بها سوريا (تشابك الخصوصيات)، التي أجاد واستعجل النظام التعامل معها – قبل التقاط الأنفاس – غدراً وخديعة.
اللاذقية كانت الأكثر انقساماً وتردداً بين المدن السورية الثائرة، أو في طريق الثورة، والمؤمنون بهذا الطريق كانوا قلة غير منظمة، صمتها قاهر، ورفضها بلا فعل مؤثر! قِلة غير منظمة، بمقابل قِلة منظمة تصرخ كيفما تشاء، وتفعل ما تريد بلا رادع، ولا قانون، ولا ضوابط إلا العبد المطيع لسيده. بين تلك القِلتين تتأرجح أكثرية مترددة خائفة ومخوّفة بعضها، مما قد تؤول إليه الأمور من خراب، وتسعى للنجاة بما تمتلك من شروط الحياة على دونيتها (على الأقل حياة). وبعضهم الأكثر من الأكثرية هو متجمع تراكمياً، من خلال اعوجاج التطور هو نكوص ليس أكثر، خائف على وضعه الطائفي؛ لعدم وجود فهم لديه عن الآخر، (أي آخر بالنسبة له صورة متخيلة)، بعد أن جنّد النظام لهذا التخويف كل ما يملك من أدوات، على رأسها رجال دين صنعهم لمثل هذا اليوم؛ ليكونوا (قرشاً أسود ليوم أبيض)، هم جزء من العتم ومن سواد الظلمة. (1)
في هذه النقطة بالذات لا ننسى الإشارات الأوربية والأمريكية والغربية عموماً، التي تتلخص بإعلان حرصها على الأقليات، وعدم المساس بها، (تذكروا لعل الذكرى تنفع). اللاذقية والساحل شائكان، بمثل هذه الأقليات من كل الأجناس والأطياف، (حسابات ليس للأكثرية مكان والمهم فيها لا وطن ليتغير).
توقفت تقريباً زياراتي للاذقية مع بدايات العام 2013، وبداية تشتت شمل الجميع بأصقاع الأرض، كما رغب النظام وحلفاؤه، وأصدقاء سوريا المُفترضون، تشتت بهدف التفتيت، وليس لإعادة التجميع، وبقيت لي ذكرى طريفة أليمة في الآن نفسه تختصر شيئاً مما رويت، ففي واحدة من غزوات استطلاعاتي للأوضاع، كنت في زيارة لصديق يقع منزله بالقرب من مبنى المحافظة، كانت جلسة هادئة على الشرفة، نتأمل الشارع والناس، وبالقرب من مبنى المحافظة، وقف بضعة مراهقين، أو أكبر قليلاً، ممن كانت أجهزة النظام تقطرهم بالشاحنات من الريف؛ ليخرجوا بمظاهرات مؤيدة، والهدوء كان يسود الشارع، إلى أن أذن موعد خروج الموظفين من دوائرهم، وازدادت حركة الناس، وفجأة يبدو أن واحداً من المتسكعين المراهقين دبّ فيه الحماس، وصاح: (بالروح بالدم نفديك يا بشار)، لكن لم يشاركه الهتاف أحد، فكرر الصياح للمرّة والثانية، وعلا صوته أكثر في الثالثة، اطم بلا نتيجة. كانت الناس تنظر إليه، وتتصنع عدم الانتباه، حتى أصدقائه الذين كان يقف معهم، أظن شعروا بشيء من الإحراج، لكن الفتى لم يستكن من شدّة حماسه، وبدأ بالصراخ على من حوله: (ولك ابعقوا…. ابعقوا)، أيضاً بلا نتيجة فكرر: (ولك ابعقوا يا إخواتين الش… ابعقوا…. يا عراعير…)، حتى عناصر الشرطة في محيط بناء المحافظة، وجدوا صعوبة بإخفاء ابتسامات السخرية؛ لأنها خطيرة بمثل هذه الحالة، إلى أن ذهب إليه أحدهم ولا أعرف ما قال له؛ لكي يخفف من وتيرة حماسه النضالي.
أما صديقي الطرطوسي المهندس، والشاعر الزجّال اللطيف صاحب الشرفة المتزوج في اللاذقية، فهو سوريّ صالحَ نفسه طائفياً ووطنياً وأخلاقياً، كان يعمل وزوجته في اللاذقية، وعلمت في ما بعد كيف عومل وزوجته كمنبوذَين حتى من أقربائه، حين ذهب لزيارتهم في طرطوس، وأطلق النار على ساقه ابن عمّ له؛ لأن الأخير سمع بخروجه في مظاهرة تطالب بالحرية، وليحرمه السير بمثلها. هذا الصديق غادر إلى الشتات والتشتت، ونال على الأقل حياة بشيء من كرامة، رغم أن شرفته ما زالت تنتظره وتنتظرني.
هامش:
- لا أعني هنا شيوخ الطائفة العلوية فقط، وإنما غالبية رجال الدين، وعندما أقول صنيعة النظام خصوصاً العلويين؛ لأنه ومنذ سيطرة حافظ الأسد على مفاصل السلطة عمل على القضاء على طبقة الشيوخ التاريخيين للطائفة (الأرستقراط)، ممن شكك في ولائهم له، وإنتاج طبقة جديدة منهم ترتبط به مباشرة.
___________________________________
من مقالات العدد الثاني عشر من (العربي القديم) الخاص باللاذقية – حزيران/ يونيو 2024
لقراءة العدد كاملاً اضغط هنا.