التاريخ السوري يشهد حل حزب البعث في مسقط رأسه: الحزب الكارثة الذي تبرأ منه مؤسسوه وامتطاه الطغاة
الظاهرة اللافتة هي الانتقادات الهجائية القاسية التي صدرت عن مؤسسي الحزب أنفسهم وقادته الكبار، وتأليف كتب سجلت أسوأ الشهادات في انحرافات الحزب وجرائمه.
محمد منصور – العربي القديم
أعلن الناطق باسم إدارة العمليات العسكرية العقيد حسن عبد الغني، يوم أمس الأربعاء الموافق للتاسع والعشرين من كانون الثاني يناير الجاري: حل حزب البعث العربي الاشتراكي، وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، وما يتبع لها من منظمات ومؤسسات ولجان، وجاء في نص القرار أيضاً: ” يحظر إعادة تشكيلها تحت أي اسم آخر، على أن تعود جميع أصولها إلى الدولة السورية”
ابتهج الكثير من السوريين بهذا القرار التاريخي الذي أنهى من حياتهم حزباً عاث خرابا في سوريا والعراق، منذ أعلن ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار عن ميلاده في السابع من نيسان / أبريل عام 1947. وعلى سبيل المثال كتب الصحفي السوري المخضرم الأستاذ ثابت سالم على صفحته على فيسبوك:
” فرحي غامر بعودة مبنى “دار المعلمين” الجميل إلى الدولة بعد أن اغتصبه أو “تسلبط” عليه ما سمي القيادة القطرية لحزب “البعث” خلافا للقانون ولعقود طويلة. ما كان يمنعني من الاستمتاع بجمال المبنى في الطريق من وإلى ساحة الأمويين هو إدراكي أن في داخله مطبخا اسود لا عمل له سوى تسويق سياسات الهدم ومباركة رئيس ورشتها باعتباره كبير عمال البناء مقابل الحصول على بقايا من مائدته المفتوحة أثناء استخدامه لمعول “البناء” هذا. الحجم المرعب للأزمات التي ورثناها عن حكم عاث فسادا وتدميرا ممنهجاً في مرافق الحياة جميعا ولعقود طويلة يعقد الالسنة ويدخلك في متاهة وحيرة من اين وكيف يبدأ الإصلاح. فإلى جانب عشرات بل مئات الآلاف من البيوت والمدن المدمرة على مساحة الارض السورية نجد ان هذا الدمار للبنى التحتية يوازيه دمار فوقي أكثر خطورة شمل الجيش والاقتصاد والجامعات وأنظمة البناء والمرور والبلديات وجهاز الموظفين والمناطق المشجرة والحراجية والثروات النفطية والمعدنية وحقوق الصيد البري والبحري والإنسان …. ثم القضاء”.
يستطيع الكثير من السوريين اليوم أن يكتبوا أقسى مقالات الهجاء في الحزب الذي صار في نظر الكثيرين منهم، عنوان الخراب الذي حاق بسورية على مدى ستين عاماً، ويستطيع المرء أن يستحضر كذلك كتابات انتقادية قاسية من خصوم البعث ومناوئيه الأوائل، كالمحامي والكاتب الدمشقي البارز زهير شلق (1918- 1994) الذي كتب في مقال له عام 1966 يقول: “لقد تهلهلت واجهة الحزب حتى أصبح ينكر نفسه بحيث لم يعد أكثر من واجهة من العسکريین وضع كل واحد منهم يده على لواء مدرع أو فرقة مغاویر أو مجموعة طائرات بدون طيارين مدربين، وأصبح الحزب اسما يصلح للإذاعات فقط” أو الكاتب الصحفي اللامع غسان الإمام (1938- 2018) الذي كتب على مدار العقود الثلاثة الأخيرة من حياته عشرات المقالات التي حللت ظاهرة حزب البعث، معتبراً في إحدى مقالاته التي نشرها عام 2013 أن ميشيل عفلق “استخدم ضباط الأقلية العلوية، للاستيلاء على الحكم (1964) فقلبه هؤلاء منفردين بحكم سوريا منذ ذلك الحين، متسترين بخرقة «البعث» البالية.
ومسقطين الحرية. والديمقراطية، بسيف الديكتاتورية”، إلا أن الظاهرة اللافتة في مسار حزب البعث، هي الانتقادات الهجائية القاسية التي صدرت عن مؤسسي الحزب أنفسهم وقادته الكبار، والتي لم تقتصر على تصريحات عابرة، أو مقالات انفعالية طارئة في هذه المناسبة أو تلك، بل تعدتها إلى تأليف كتب سجلت أسوأ الشهادات في انحرافات الحزب وجرائمه.
(التجربة المرة) لمنيف الرزاز: حزب الفراغ الفكري
فاتحة تلك الكتب كانت (التجربة المرة) لأمين عام الحزب د. مؤنس الرزاز، الذي صدر عام 1967، بعيد عام على انقلاب اللواء صلاح جديد الذي سمي (حركة 23 شباط) الذي كان أول انقلاب يقوده أحد أجنحة البعث ضد جناح بعثي آخر، والذي تم بموجبه سجن رئيس الجمهورية الفريق أمين الحافظ بعد الهجوم بالأسلحة الثقيلة على منزله في معركة استمرت أكثر من ثلاث ساعات وقاوم فيها الحرس الرئاسي حتى نفاذ الذخيرة.. وقد أقصي د. الرزاز بموجب هذا الانقلاب كما باقي أعضاء القيادة القومية للبعث التي انقلبت عليها القيادة القطرية ممثلة بالعسكر الطائفي.
وهكذا ينطلق الكتاب من هذا الحدث الانقلابي تحديداُ، الحدث الذي يقول عنه د. منيف الرزاز في مقدمة الكتاب:
” إنني لأشعر، وقد كنت أميناً عاما للحزب يوم وقع الحدث المشؤوم، أن من واجبي أن أحاول تحليل هذا الحدث، وأنا أتابع نموه التاريخي المتدرّج حتى نضج يوم 23 شباط، وأن أتعمق ما أمكنني التعمق في تشريح ما وراء الحدث من ظروف وضغوط وأحداث وأمراض وأخطاء تعرض لها الحزب فانتهى إلى النكسة السورية بعد النكسة العراقية “.
ويمضي المؤلف ليوضح أن هدف الكتاب ليس تقييم حكم البعث في سورية بعد أربعة أعوام من وصوله إلى السلطة [زمن صدور الكتاب] ولا ذكر الإنجازات التي حققها في الحكم، وإنما “ذكر الأخطاء والانحرافات محللا أسبابها وعواملها، وهو ينقد نقدا ذاتياً، ولكنه لا يقيم كامل المرحلة”.
لكن رغم هذا الأفكار التمهيدية التي تحاول أن تلطف من قسوة التجربة ومراراتها، ورغم تمسك المؤلف بما قال إنها مبادئ البعث التي مازال مقتنعا فيها، إلا أن ما يكتبه من أفكار انتقادية، يكاد ينسف تجربة البعث برمتها، ويجعلها مجرد شعارات وأحلام طوباوية لم تنتج على أرض الواقع سوى الكوارث والأخطاء، ومنها قوله مثلا:
– إن معظم الانحرافات التي طرأت على الحزب، كانت نتيجة العجز عن مواجهة أثقال الطريق الصعب والميل إلى اتخاذ الطريق السهل.
– إن مستوى تركيب الحزب وتنظيمه وأجهزته “قيادةً وقواعد” لم تكن أبدا في مستوى فكرته وحتميته التاريخية
– إنه كان هناك دائما تناقض بين عظم المهمة التاريخية التي حملها على عاتقه، وبين الأداة التي حمل بها هذه المهمة.
– تفشى في الحزب مرض آخر من خلال أزماته المختلفة، ومن خلال الفراغ الفكري الذي انحدر إليه، هو “الولاء الشخصي” الذي لم يعد مجرد مرض في الفئة المتسلطة حسب، بل امتد إلى الفئة القومية نفسها، فأصبح في الحزب: “جماعة صلاح جديد”، و”جماعة الفريق”، و”جماعة البيطار” وكنت واثقا أن قواعد الحزب أوسع من كل هذه الجماعات. ص (175).
وإذا كان منيف الرزاز يولي حركة 23 شباط (انقلاب صلاح جديد) جل اهتمامه واصفا إياها بأنها ” أكبر طعنة وجهت للحزب منذ قيامه ” ومشبها فهمها للاستيلاء على السلطة بالقوة بأساليب الفاشية والنازية قائلا: ” إنهم يفهمون الحزب زعامة تصنع قاعدة على هواة وقاعدة ترضخ للزعامة وتنفذ أوامرها. وهم لم يخترعوا هذا الفهم، فقد كانت له سوابق في النازية والفاشية من جهة، وفي الستالينية من جهة أخرى ” ص (207)، فإن الرزاز لا يغفل عن وضع انقلاب صلاح جديد في سياقه الطائفي، وعن إعادة جوهر أزمة البعث إلى قبولها بتنظيم اللجنة العسكرية الذي صنع انقلاب الثامن من آذار الذي أوصل حزب البعث إلى السلطة، ثم أراد أن يلتهم الحزب ويمتطيه كأداة لممارسة ديكتاتورية عسكرية أولا وطائفية ثانياً، وفي ذلك يقول ص (192):
” كانت حركة 23 شباط نتيجة طبيعية لكل أخطاء الحزب السابقة، والثور الأبيض أكل يوم 8 آذار، يوم رضي الحزب بأن يحالف حركة عسكرية غير تابعة له تنظيمياً، بل ولا عقائدياً، دون أن يضع أي شرط لهذا التحالف … بل تجاوز مرحلة التحالف إلى مرحلة الدمج، مسلماً إياها الحزب دون أن يستلم بالمقابل شيئاً، ودون أن يعرف أين يقف هو من هذه الحركة، وأين تقف منه”.
(البعث) لسامي الجندي: الحزب الذي أصبح تهمة!
لم يكن ينقضي عقد الستينات حتى فاجأ قيادي بعثي سابق أصدقاء الحزب وخصومه بكتاب مدوٍ صدر عن دار النهار في بيروت عام 1969 وحمل عنوان “البعث” لمؤلفه الدكتور سامي الجندي
كان سامي الجندي قياديا له دور كبير في حزب البعث العربي الاشتراكي، فمع انقلاب حزب البعث في الثامن من آذار عام 1963 أصبح عضواً في مجلس قيادة الثورة وناطقا رسميا باسمه، وتبوأ منصب وزيرا للإعلام في حكومة “صلاح الدين البيطار” وبعد محاولة جاسم علوان الانقلابية في تموز عام 1963 كلف بتشكيل الحكومة لكنه اعتذر عنها، ثم أوفد سفيرا إلى فرنسا عام 1964 وظل في منصبه حتى عام 1968
منذ مقدمة الكتاب وحتى الصفحة الأخيرة من صفحاته المائة والستين، يقدم الجندي، مرافعة هجاء طويلة لا تستثني شيئا من بنية الحزب ومساراته وآليات عمله وأدائه في الحكم بعد استيلائه على السلطة بالقوة، منطلقا في مقدمته الأولى من الشعور بالخجل الذي بات يثيره وصف “بعثي” قائلا:
“من كان يحسب أن البعث ينتهي إلى كل هذا العبَث؟ من كان يحسب منا أن تصبح كلمة “بعثي” تهمة يدفعها بعضنا عنه بسُخرٍ مُر؟ من كان يظن منا أن يوما يأتي نخجل فيه من ماضينا، نفر منه كذنب اقترفناه عن عمد فتلاحقنا عيون البشر احتقاراً، نكاد ننكر أنا كنا منه، نخفي هويتنا”
يعتبر سامي الجندي أن رحلة البعث إلى الاستيلاء على الحكم بالقوة كانت “سريعة وخطرة” ويصف البعث في الحكم بأنه آخر آيات التخلف فيقول:
” ظننا أن عصور الانحطاط قد انتهت بسلفنا من السياسيين وأننا بدءٌ عظيم لحضارة جديدة، فإذا نحن آخر أيات التخلف، تعبير فاجع عنه. أردنا أن نكون بعثا للمناقب والبطولة فما بعث فينا – في الحكم – غير عصر المماليك” ص (10).
بهذه اللغة الاعترافية القوية التي تنضح ألما وترفعاً عن التزلف والمحاباة والتبرير، يمضي سامي الجندي في كتابه الذي غدا على مر عقود أبرز المراجع عن انحرافات وجرائم حزب البعث، وعن طائفية صلاح جديد الذي صنع خلف الحزب “حزبا آخر للطائفة” والذي استغل انتماء زكي الأرسوزي الطائفي وأراد أن يحله محل ميشيل عفلق كأب مؤسس للحزب، ويمضي سامي الجندي بلغة أدبية رفيعة شديدة الحساسية في تصوير الحالة الرثة، متسائلا بمرارة:
“بقي أن نسأل من هو المتهم، الجواب: كل الناس، فتقرير بسيط على ورقة من أحد الرفاق، تبدأ: بأمة عربية واحدة، وتنتهي بالخلود لرسالتنا، يعني شهوراً في الزنزانة، ثم إنساناً يُحطم مدى الحياة”.
ثم ينهي السطور الأخيرة من كتابه الذي روى فيه تاريخ البعث في مختلف العهود السياسية وصولا إلى تسلطه على الحكم كما لم يرو من قبل.. ينهي كتابه بالقول:
“بدأ البعث بالانسان وتقديسه وآل إلى جلاد (….) أصبح البعثيون بلا بعث، والبعث بلا بعثيين: أيديهم مصبوغة بالدم والعار يتسابقون إلى القتل والظلم والركوع أمام الجزمة”
(حزب البعث العربي) لجلال السيد: العدو والخصم!
يعتبر جلال السيد ابن مدينة دير الزور، ثالث ثلاثة أسسوا حزب البعث، فقد شكل نواة اجتماعاته الأولى مع ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار حين زار دمشق في نيسان من عام 1942 وأقام فيها مدة ثلاثة أشهر.
ألف جلال السيد كتابا عن انحرافات وتصدع الحزب وأخطائه نشرته دار النهار عام 1973 بعنوان: (حزب البعث العربي) انتقد فيه الممارسات الوحشية التي قام بها الحزبيون ضد خصومهم، وسطر في كتابه شهادته على الطريقة التي كان يعامل فيها البعثيون خصومهم حيث قال: “وقف هؤلاء الحزبيون موقف العدو من كل مواطن لا يدين لهم ولا يسير وفق منهجهم وسلوكهم.. واستباحوا دم الخصوم من المواطنين إذا لزم الأمر ذلك”.
وبخلاف لغة د. سامي الجندي الهجائية المرة، فقد سعى جلال السيد لتقديم معاينة أقل حدة نسبياً، لكنها لم تغفل عن إبراز الخلل والتجاوزات التي بلغت حد الجرائم… وعبر أكثر من ثلاثمائة صفحة حلل فيها نشأة الحزب وصولا إلى استيلائه على السلطة، يذهب السيد إلى تحليل صورته في أعين الناس بعد وصوله إلى الحكم فيقول:
” إن مؤيدي البعث البعث قبل أن يستلم الحكم كانوا أكثر عددا وأكثر تعلقا به، وقد تناقص عددهم وخفت حماستهم بعدما تولى البعث الحكم، ورأى منه الشعب عجباً. فهناك احتكار للمناصب بصرف النظر عن الكفاءة والقابلية. كما أن القوانين التي صدرت قد أصابت فئات كثيرة في أرزاقها وعيشها. وقد ظهر التسابق بين البعث وعبد الناصر، فإذا خصص عبد الناصر للمالك ثمانين هكتاراً، جعل البعث للمالك خمسين هكتاراً لأن تقدميته واشتراكيته يجب أن تزيد على تقدمية عبد الناصر واشتراكيته، والفرد العربي في سورية هو الضحية لهذا السباق” ص (286).
هذا التنكيل بأرزاق الناس والتخبط في القوانين، أثار اهتمام جلال السيد على مدار الكتاب، فرده مرة إلى الانتهازية السياسية والمزاودة على عبد الناصر، وأخرى إلى المحسوبيات الطائفية والعشائرية، وثالثة إلى افتقاد البعثيين للخبرة وفي ذلك يقول:
“إن تسليم الوظائف الكبرى والمناصب الحساسة إلى شباب أغرار عديمي الخبرة، قد سبّب هوان الحكم والحزب معا في نظر الرأي العام، وقد أحصى المواطنون تعديلا لبعض القوانين خلال شهر واحد عدة مرات، وهو أمر نجم عن قلة الدراسة ونقص في كفاءة المشرّعين” ص (279)
وفي الصفحات الأخيرة من الكتاب يوجه جلال السيد انتقادات قاسية لانقلاب حافظ الأسد في تشرين الثاني من عام 1970، معتبراً أن كل ما جاء في بيان حركته “التصحيحية” من إطلاق للحريات وحفظ لكرامة المواطن وتحقيق للعدالة لم يتحقق، فكأن كل أجنحة البعث كانت تلتقي عند هذا الكذب الشعاراتي الذي تناقض وعوده البرّاقة واقع الحال:
“إن الشعب الذي رحّب بحركتكم قد أخذ يعيد النظر في هذا الترحيب، أو قل إنه أخذ يشك في فائدة الحركة ما دامت لم تحقق له أبسط ما كان يرجوه وهو الانفتاح، والشعب يفهم بفطرته وعقله أن حكم الشعب الذي أشرتم إليه إنما يعني الحكم الديمقراطي، وهذا يستلزم أن يكون ممثلو الشعب من صنع الشعب، لا من صنع الحكّام” ص (310).
صلاح الدين البيطار: عفوك شعب سورية العظيم
لا تكتمل شهادات الآباء المؤسسين الاعترافية هذه، من دون الإشارة إلى مقال صلاح الدين البيطار المدوي، الذي نشر في العدد (21) من مجلة الإحياء العربي، التي أسسها وأصدرها في باريس، والذي نشر في العدد الأخير الذي صدر في الخامس والعشرين من تموز/ يوليو 1980 بعد أربعة أيام على قيام مخابرات الأسد باغتياله.
يعتبر صلاح البيطار مع ميشيل عفلق الثنائي المؤسس لحزب البعث، بل يذكر جلال السيد أن عفلق اعترف له أن كثيرا من الأفكار التي كانت تنسب إليه هي للبيطار الذي لم يكن مهتما بتصحيح نسبها أمام المريدين والأتباع.. وقد شكل صلاح الدين البيطار أول ثلاث حكومات بعد صول البعث إلى السلطة عام 1963 ثم فر إلى خارج البلاد بعد انقلاب صلاح جديد عام 1966، وتنقل بين بغداد وبيروت قبل أن يستقر في باريس.
قدم صلاح الدين البيطار اعتذارا للشعب السوري عما أسماه جريمة البعث وما ولدته من أنظمة استبدادية، إذ كتب يقول: “عفوك شعب سورية العظيم.. عفوك شعبنا الجريح الذبيح، إذا ما تطلعت نحو القريب والبعيد، وتلفتّ نحو الشمال واليمين خارج الحدود ترقب بصيص أمل في نجدة معنوية وسياسية وإعلامية تأتيك من وراء هذه الحدود لوقف الظالمين عن ظلمهم، عفوك إذا ارتد طرفك وهو كليل. عفوك إذا الملوك والرؤساء هنا وهناك رأيتهم يستقبلون السفاحين الملطخة أيديهم بالدماء بالأمس القريب في جسر الشغور وحلب وحماة واليوم في تدمر استقبال الفاتحين”.
ولعل أخطر ما يشير إليه البيطار أن مفاوضات وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر مع حافظ الأسد بعيد حرب أكتوبر 1973، نصت على أن التسوية مع إسرائيل لن تتم إلا إذا تمكن النظام البعثي من “إحكام العزل السياسي على شعب سورية، وهو شرط لابد منه”.
لقد شكلت كل هذه الشهادات والمراجعات السابقة من مؤسسي البعث الأوائل وقادته الكبار، صورة تاريخية غير مسبوقة عن حزب رفع شعار التقدمية فترحم الناس على الرجعية، وتحدث عن العدالة الاجتماعية فأصبح لعنة على العدالة وعلى المجتمع وعلى المرحلة التاريخية التي طبعها بطابع المراهقة السياسية والاستبداد السلطوي والخراب الذي دمّر حياة أجيال بأكملها.
واليوم تطلق الإدارة الجديدة في سوريا طلقة الرحمة على هذا الحزب المريض البائس الذي بلغ من العمر 78 عاماً، والذي صار ممسحة للعسكر والطغاة، كي تصنع تحولا جديداً في التاريخ السوري