الرأي العام

مقامات أمريكية | دروس في تصوير الحياة من كييڤ

د. حسام عتال

وضع والدي كاميرته الروسية “كييڤ ٤”، والتي اشتراها في كييڤ، في يدي الصغيرة، وبدأ يشرح لي كيفية استخدمها: “هذه هي العدسة، وهكذا تحدد فتحتها، وهذا هو الغالق، وهذا الزر الذي يتحكم بتسريعه أو تباطئه؛ ومن هذه النافذة ترى الضوء الذي جمعته العدسة، “الآن أسمع هذا الصوت الجميل”، أمسك والدي إصبعي الصغير ووضعه على المغلاق (كليك)، “لقد سجلت الكاميرا الصورة على الفيلم” قال لي، ثم أتبع: “اذهب الآن واحكي قصصاً في الصور التي تلتقطها”.

 كنت في السنة التاسعة من عمري، ومنذ ذاك اليوم أصبحت نافذة الرؤية في الكاميرا عيني التي أرى بها العالم، عالم التصوير، ومن وراءه العالم الحقيقي. أحياناً لا أعرف أياً منها هو الذي يعمل في ذهني، أين يبدأ أحدهما أو ينتهي الآخر. قد أكون في اجتماع مع زملاء العمل وأنا أنظر حول الغرفة أرى صورة هنا وصورة هناك، وأريد أن أصلح من جلسة إحداهن كي تكون في وضع أفضل للتصوير؛ أو أكون في رحلة تصوير خاصة، فأقفل الكاميرا وأضعها جانباً. إنه وقت تأمل المنظر الطبيعي الرائع، فيما رفاق الرحلة ينبشون حقائبهم، مشغولين، يحاولون إيجاد العدسات المناسبة والإعدادات المثلى لتصوير المنظر أمامهم. أنا في مزاج آخر.

وبواسطة الكاميرا تعلمت أول دروس الحياة. أول ما اكتشفته هو أنني أستطيع أنني أستطيع التحكم بالإطار، أستطيع أن أختار العناصر التي أضعها داخله، وتلك التي أستطيع أن أتركها خارجه. أستطيع أن أوافق، أقبل، أسمح؛ أو إن اخترت أن أعارض، أمتنع، أو أطرد. وأني ألقى خياري عندما أحمّض الفلم وأطبع الصور: هل وُفِّقتُ أم أخفقت؟  لا ألوم أحداً سوى نفسي في نتيجة الصورة، وفي تعاملي مع الناس في محيطي الذي كان يتسع يوماً بعد يوم.

ثم أدركت دلالات المنظور. وجدت أنه يمكنني أن أغيّر المنظور بالتحرك قليلاً يمنة أو يسرة، برفع الكاميرا للأعلى أو خفضها إلى مستوى الأرض، بتغيير زاوية العدسة وحجم فتحتها. فيتغير المعنى كله مع تغير بسيط في منظور الرؤية، ويختلف الشعور عندما ننظر من منظور مختلف، خاصة من الطرف الآخر. فالأحداث حولنا هي ليست مانرى ونسمع، ولكن ما نختار أن نرى وما نحب أن نسمع، كيف نراها، ومن أي زاوية.

يتغير المعنى كله مع تغير بسيط في منظور الرؤية

وتعلمت أن أقدّرْ التفاصيل، لأن الصورة الشاملة بطولها وعرضها، الحاوية على كل العناصر المتاحة لي، قد لاتكون أفضل وسيلة لإيصال الفكرة أو لفهم الموضوع بالأساس. القصة قد تكون في تلك التفاصيل الصغيرة الخفية التي قلما يلاحظها أحد. التركيز المحدد على تفصيل صغير قد يضفي إحساساً أعمق وتأثيراً أقوى، ويروي قصة أشد تعبيراً من كل ما يمكن للصورة الشاملة أن تفعله. الحياة كالصورة لا تستقيم بالفلسفات المنطقية والعقائد العظيمة والعظات البليغة، فكلمة صغيرة جارحة قد تحطم نفسية إنسان وتهدم كيانه، بينما كلمة أخرى صغيرة، طيبة صادقة، قد تنقذ إنساناً آخر من ضياع محتم.

وبدأ إحساسي بلحظات الزمن يتكوّن بالتدريج. أصبحت أكثر صبراً في معظم الأوقات، ولكن أكثر ألحاحاً وقت الحاجة. فعند التصوير، قد أقف أمام مشهد لساعات طويلة دون أن أرى شيئاً يستحق الانتباه.  ثم فجأة، ولوهلة وجيزة، يتغير كل شيء: يكتسب الضوء دفئاً بعد برود، نعومة بعد خشونة، تركيزاً في المكان المرغوب بعد انتشار غائم. هذه هي اللحظة التي كنت أنتظرها، عادة لا طويلاً فيجب استغلالها قبل أن تضيع. هكذا وعيت أنه علي أن أكون جاهزاً للعمل بحيوية في المكان المناسب والوقت المناسب. وهكذا اللحظات الرائعة في الحياة،تعبر بسرعة ويجب اصطيادها بجاهزية دقيقة ونفوذ، والتمتع بها بكل أبعادها قبل أن تختفي.

ووجدت أن الضوء الساطع لن ينير لي كل شيء. في الواقع قد يعمي بصري عمّا هو أهم وأجمل. وأن القصة التي أبحث عنها قد تكمن في الأماكن الخافتة الاضاءة، الخفية، البعيدة. أو حتي في نقيض الضوء، في الظل، العتم، الظلام. لذلك كثيراً ما أترك الأمكان الساطعة النور، وأحاول أن أجد أطيافاً أخرى في الفضاء المحيط ناشداً بغيتي فيها. هذه العلاقة بين النور والظلام قد يكون فيها مفتاح الكهف الذي في عمق ظلمته قد تقبع الكنوز التي أبحث عنها. وكذلك الحال مع الناس، أهلي، أصدقائي، زملائي، هم أطياف وأكثرهم بريقاً. قد لا يكون أحسنهم لطفاً وذوقاً أو أكثرهم مبعثاً للخير.

الضوء الساطع لا ينير كل شيء… وقد يعمي البصر عمّا هو أهم وأجمل

وبصعوبة تعلمت أنه علي القبول بالأمر الواقع، بعد أن استنفذ كل جهدي: لن أحصل على الصورة التي أريدها كل مرة أخرج فيها قاصدا موضوعاً معيناً للتصوير. ربما أقضي أياماً أبحث عن طائر فريد، أو ظاهرة جوية نادرة، ثم أعود لبيتي خائبا ليس في جعبتي سوى لقطات لاتستحق ثمن الفلم الذي سجلت عليه. سيكون لي جولة أخرى، ويوماً ما قد أحصل على الصورة المنشودة، أو ربما صورة أخرى لم أكن أبغيها بالأصل. لكني إن لم أحصل على ما أبغاه فلن تكون نهاية العالم، ولن يذهب وقتي سدى، فكما تقول الكليشية قد تكون حكمة القصة في طريق الرحلة وليس في هدفها النهائي. علي أن انتفع وأتذوق ما أجده في الطريق، بغض النظر عن المقصد والنتيجة الختامية.

وعندما درست التصوير بشكل أكاديمي منهجي في معهد نيويورك للتصوير الفوتوغرافي، أدكت أن الخبرة هي أهم من الدراسة التقليدية، وأصبحت أحترم الناس الذين عاركوا الحياة واكتسبوا خبرتهم من صراعهم مع تقلباتها وأهوائها واضطراباتها. وبتّ أقدر خبرة الفلاح والعامل اليدوي، والسائق، وصاحب المهنة ولا أنظر دونياً تجاههم. العلم لا يقبع دوماً في الكراسات والكتب والمجلدات، والتخرج من معهد أو كلية أو جامعة هو ليس بالضرورة عنوان الحكمة أو طريق المعرفة الوحيد.

ومع تقدم صناعة الكاميرات التقني الديجيتالي، استنتجت أن المال لا يمكن له أن يشتري كل شيء. فأن أغلى الكاميرات وأحدثها تقنية ليس ضماناً لتحقيق أجمل الصور أو أكثرها تأثيراً. والمال لا يمكن أن يشتري الخبرة والمراس والموهبة والمهارة، وممارسة التصوير كهواية أو كحرفة لا يبدأ بشراء أفضل الكاميرات والعدسات وأغلاها ثم تبديلها مع كل جيل جديد من الكاميرات. والصورة الجيدة لاتحتاج لأغلى الكاميرات، هي تحتاج لمقومات بسيطة لكنها عصيّة بوقت واحد، من تأطير، واختيار للعناصر المختلفة وتوزيعها، وتفاعلها مع بعضها، وإضاءتها وظلها، ووضوحها أو غباشتها، وبعدها أو قربها، وتوازنها أو عدمه، وزاوية منظورها، وأمور كثيرة أخرى لا وقت لسردها اليوم… ومن ثم تسخير كل هذه المقومات في سبيل سرد قصة فريدة، محددة، واضحة، ومتماسكة الأركان. 

فإن أعجبتك صورة ما، لا تسأل مصورها عن الكاميرا التي استخدمها لالتقاط الصورة، فليس هناك ما هو أكثر استخفافاً بالمصوِّر من هذا السؤال. هذا درس آخر في الحياة تعلمته: من منّا يسأل أي آلة كاتبة تلك استخدمها همنغواي عندما كتب رائعته “لمن تقرع الأجراس”؟ أو أي نوع من أنواع الدهان استخدمه بيكاسو عندما علّم العالم برمته قيمة الفن التجريدي؟

تعليق واحد

  1. لقد تشرفت بمشاهدة بعض صورك وهي جيدة جدًا، في الواقع إنها أكثر من جيدة جدًا. إنهم رائعون. أنا أوافق بالتأكيد على أن الكاميرا ليست سوى أداة في يد المصور الذي يحدد من هو الموضوع وتحت أي ظروف يتم التقاط الصورة ولكن كهاوي تمامًا لا يسعني إلا أن أعتقد أن الأداة مهمة أيضًا في السماح للمصور بتحقيق ما يبحث عنه بشكل معقول. أتساءل عما إذا كنت ستستخدم Keiv 4 لمهمة . دكتور، أنا متأكد من أنك أحد الأفراد النادرين الذين يشعرون براحة كبيرة في مجموعة متنوعة من المجالات على المستوى المهني: الطب والكتابة والتصوير الفوتوغرافي وأتخيل الزراعة. عمل عظيم. استم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى