العربي الآن

من تحت الأنقاض إلى مدن الأحلام: رؤية لإعمار سوريا الجديدة

تتجلى رؤية إعمار سوريا الجديدة كما لو أنها ولادة أخرى لبلد أنهكته عقود من الفساد والاستبداد.

عمر مسفقة * – العربي القديم

فترة حكم حزب البعث:

حين يتأمل المرء حقبة حزب البعث، يرى عالماً يكسوه الإهمال، وتُشيده المحسوبيات، ويديره التخبط الإداري. القوانين، وإن وُجدت، كانت تُركن على الرفوف، والتخطيط الحضري خضع لأهواء السياسة والمصالح الضيقة. أحياء كاملة شُيدت لإرضاء قلة، تاركة المدن في فوضى من التوسع العشوائي والبنى التحتية المهترئة.

في ظل حكم آل الأسد، تدهورت الظروف العمرانية بشكل ملحوظ. بعيداً عن توقف تطور أنظمة البناء الحديثة منذ زمن طويل، تم إهمال المباني التاريخية بدرجة كبيرة لا تحترم ذلك الإرث التاريخي الضارب في القدم والعراقة الفريدة من نوعها.

مواد البناء، المستوردة بلا تفكير، جاءت غريبة عن ثقافة البلاد ومناخها. الاسمنت، هذا الغازي من الغرب بعد الحرب العالمية الثانية، اجتاح مدن سوريا بمبانيه الثقيلة الخالية من روح بلاد الشام والتي لا تصد برداً ولا تخفف حراً وهي غير قادرة على الاحتفاظ بالطاقة، بينما كانت الدول المتقدمة تبتكر وتُعلي من شأن الاستدامة وحفظ الطاقة في الهندسة المعمارية. النمط العمراني الإسمنتي، المستوحى من ثقافات أخرى، فشل في تلبية احتياجات المجتمع السوري، ليزيد من وطأة الفردية ويغذي الأزمات النفسية والاجتماعية.

أثناء الثورة السورية

وحين أشرقت شمس الثورة السورية، انطفأت كل مشاريع التطوير التي بالكاد كانت تتحرك. النزاع المستمر وعدم الاستقرار أدى إلى تدمير كبير، حيث أصبحت أحياء بأكملها غير صالحة للسكن بسبب القصف الجوي والمدفعي المنهجي من قبل النظام السوري وحلفائه. التهجير واسع النطاق، مع مغادرة 12 إلى 14 مليون سوري البلاد، ترك الكثير من الوحدات السكنية والتجارية لمصيرها البائس من هجران وخراب ودمار.

 تظهر إحصائيات قطاع الاسمنت هذا التدهور الكبير في قطاع العمارة؛ على سبيل المثال، مصنع بادية الشام للاسمنت بالقرب من دمشق أفاد بانخفاض الإنتاج والمبيعات إلى 30% فقط من مستوياته في عام 2011 بحلول عام 2016

مرحلة ما بعد انتصار الثورة السورية:

حين تنتصر الثورة، يصبح الإعمار عملية ابتكار لما يجب أن يكون، وليس مجرد استعادة لما كان. تحتاج سوريا اليوم إلى هيئات تخطيط تعيد تشكيل المشهد الحضري بما يتناسب مع جغرافيتها وإرثها العريق. مرحلة ما بعد الثورة تمثل فرصة لإعادة بناء المدن وتصحيح إخفاقات الماضي، على أن تؤسس لبيئة حضرية مستدامة ومبتكرة تتناغم مع الثقافة المحلية.

فيما يلي سرد لمجموعة من التوصيات المهمة لإعمار المدن السورية:

في إطار السعي لإعادة بناء سوريا بعد سنوات من الدمار والصراع، يبرز تأسيس هيئات متخصصة في إدارة التخطيط الحضري كتوجه رئيسي لضمان توسعة المدن بما ينسجم مع التراث الثقافي والجغرافيا المحلية. يعزز هذا التوجه إنشاء مراكز بحثية تهدف إلى تطوير مواد بناء حديثة أو استلهام المواد التقليدية كالمواد الطينية، مما يجعلها تتلاءم مع المناخ المحلي وتستجيب للتحديات المستقبلية، مثل التغير المناخي. يجب أن تكون هذه المواد مستدامة على صعيد الإنتاج والنقل والاستخدام وإعادة التدوير.

دمار هائل بالقصف الجوي والمدفعي والصاروخي تسببت به قوات الأسد والاحتلال الروسي

حجر الزاوية في تحقيق التوازن

التصميم الحضري المحلي، كالبيوت العربية ذات الفناء الداخلي، يمثل حجر الزاوية في تحقيق التوازن بين الحداثة والتراث، حيث يمكن تطوير هذه الأنماط لتتناسب مع المستقبل دون فقدان هويتها التاريخية. على النقيض، يجب الحذر من التقليد الأعمى لأنماط البناء الغربية التي غالبًا ما تكون غير ملائمة، مع ضرورة تحليلها وتكييفها لتتناسب مع ثقافة المنطقة وجغرافيتها.

في مواجهة الدمار الهائل، يمكن استثمار كميات الأنقاض الناتجة عن الحرب لإنشاء بنى تحتية جديدة كالطرق السريعة التي تصل بين المدن السورية او التي تصل سوريا بالدول المجاورة، مما يعزز موقع سوريا كمحور تجاري وانتقالي. إلى جانب ذلك، تتطلب التغيرات المناخية إعادة النظر في إدارة الموارد المائية، مع بناء سدود جديدة أو توسيع القائمة منها باستخدام المواد المتاحة.

البناء المستدام يعدّ عنصرًا جوهريًا في مرحلة الإعمار، من خلال استخدام مواد محلية وخبرات وطنية تضمن تحقيق التوازن الجمالي والثقافي مع خصوصية المنطقة، إضافة  لتهيئة المباني لتكون ملائمة لجميع فئات المجتمع، من أطفال وكبار السن إلى ذوي الاحتياجات الخاصة أو مصابي الحرب. كما ينبغي توسيع المساحات الخضراء داخل المدن وسن قوانين صارمة لحمايتها، لتصبح متنفسًا طبيعيًا يدعم المجتمعات المكتظة.

في هذا السياق، يتعين إعادة إحياء الساحات العامة وأماكن التجمع المجتمعي التي عانت من الإهمال خلال حقبة الحكم البعثي، مع التركيز على زيادة عدد هذه الساحات وتوزيعها في المدن والضواحي لتلبية احتياجات جميع فئات المجتمع. يجب تحويلها إلى مساحات نابضة بالحياة تعزز التفاعل الاجتماعي وتوفر متنفسًا طبيعيًا للسكان.

خبرات المهندسين السوريين في الخارج

من جهة أخرى، يمكن الاستفادة من خبرات المهندسين السوريين في الخارج ودمجها مع الكفاءات المحلية لتطوير أنظمة بناء حديثة تراعي الخصوصية السورية وتلبي المتطلبات البيئية والاجتماعية. هذه الخطوة تمثل ركيزة أساسية لإعادة الإعمار بطريقة مبتكرة ومستدامة.

تحفيز الابتكار في التصميم العمراني يمكن تحقيقه عبر تفعيل نظام المسابقات المعمارية، مع رصد جوائز مادية تشجع على تصميم مدن وأبنية عامة بأسلوب مبتكر وفعّال. بالتوازي، يجب دعم النمو اللامركزي من خلال تنمية المدن الصغيرة والمناطق الريفية عبر إنشاء مراكز تجارية وثقافية تخفف من الضغط السكاني على المدن الكبرى.

تطوير شبكات النقل يعدّ من الأولويات، بما في ذلك تحسين شبكات السكك الحديدية وربط الأحياء السكنية داخل المدن ببعضها البعض، فضلًا عن الربط بين المدن، مع التركيز على وسائل النقل المستدامة كاستخدام الطاقة الشمسية والسيارات الكهربائية.

حي مشاع الأربعين في حماة: أغسطس 2010

حي مشاع الأربعين في حماة: أكتوبر 2012

النهضة الصناعية المرتقبة تتطلب تنظيماً أفضل للمناطق الصناعية وفصلها عن المناطق السكنية بما يضمن كفاءة انتقال العمال ويقلل الأثر البيئي. بالتزامن، يتعين حماية الأراضي الزراعية من التمدد العمراني العشوائي، مع تعزيز القطاع الزراعي ليسهم في دعم الاقتصاد الوطني وتوفير مواد بناء مستدامة مثل الخشب أو العوازل الطبيعية.

بمثل هذا النهج الشامل، يمكن لسوريا أن تؤسس لمرحلة جديدة من الإعمار تعتمد على الاستدامة والابتكار مع الحفاظ على التراث الثقافي والجغرافي الغني للبلاد. إعادة الإعمار فرصة نادرة لتشكيل حلم جديد لسوريا. من خلال التخطيط الذكي، يمكن للبلاد أن تنهض لتصبح نموذجاً عالمياً في الاستدامة والابتكار. سوريا الجديدة قد تكون فصلاً جديداً في كتاب طويل، فصلاً يُكتب بالصمود والعمل الجماعي، عنوانه الأمل والنمو. * ماجستير في هندسة العمارة تخصص الاستدامة والأداء المعمار

___________________________________________________________________

* ماجستير في هندسة العمارة تخصص الإستدامة والأداء المعماري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى