أرشيف المجلة الشهرية

إسرائيل كأكبر خطر على الديمقراطية الغربية

د. أحمد عسيلي

 في حديث مع أحد التلفزيونات الفرنسية، ظهر منذ عدة أيام الروائي الفلسطيني كريم قطان، ليقول بكل صراحة: “أنا خائف من التحدث في الشأن الفلسطيني”، وبرر هذا الخوف “ممكن أن تأخذ أي كلمة أقولها، وتخرج من سياقها، لأتهم لاحقاً بعدة اتهامات”.

ربما كان الأمر، ليبدو سوريالياً، لو تخيلنا هذا السيناريو، منذ عدة أشهر فقط،  روائي في منصة إعلامية فرنسية خائف من الكلام، في  بلاد الحرية وحقوق الإنسان، والتي  تعتبر حصن الديمقراطية، وتدافع عن حرية التعبير، لأنها تعتبرها جزءاً من هويتها الوطنية، منذ أيام الثورة الفرنسية، فحرية الكلام في فرنسا حقّ مقدس، بل إن التظاهر والإضراب جزء من الحياة اليومية للفرنسيين.

لكن للأسف هذا الخوف أصبح الآن  مبرراً جداً، بل وربما يشاركه فيه العديد من الفرنسيين، سواء أكانوا من أصول أجنبية، أو فرنسية، فالكلام ممنوع، وحرية التظاهر ممنوعة، وبأمر من وزير الداخلية نفسه!

لحظة:  ألم تكن حرية التظاهر جزءاً من الدستور الفرنسي، والشرعة الدولية لحقوق الإنسان، والتي صادقت عليها فرنسا،  وتعتبرها الدولة الفرنسية جزءاً أساسياً من مبادئ تكوينها؟

نعم، هذا الكلام صحيح، في ما يخصّ كل شيء، سوى السياسات الإسرائيلية، فقد وصل الترهيب النفسي، والوعيد بسحب إقامة كل أجنبي يشارك في هذه المظاهرات. قرار اتخذه وزير الداخلية، ثم أبطلته المحكمة الدستورية (وهي آخر حصون الديمقراطية في فرنسا)، لكنها أبقت على حق رئيس شرطة كل منطقة في منع هذه التظاهرات، إذا كانت  مهددة للأمن!!! ولا أفهم صراحة، كيف يمكن لمظاهرات أن تخلّ بالأمن؟ أليس مسؤولية الأمن حمايتها، أليست حرية التظاهر هي ما يميز المجتمع الديمقراطي؟!

  والأكثر كارثية هو التهديد الذي طال بنزيما، ومن وزير الداخلية نفسه مرة أخرى،  الذي تحدّث، وكأنه شبّيح في جمهورية الأسد، أو أحد صحفيي الردح في التلفزيونات المصرية، متهماً بنزيما بتهمة غاية في السخرية والاستهتار، بعقول الشعب الفرنسي، بأنه على علاقة مع جماعة الإخوان  المسلمين !!! ومع انتشار شائعة سحب الجنسية الفرنسية منه، شائعة اعتقدت بداية  أنها مزحة تافهة، من تلك المبالغات التي تنتشر بين الفترة والأخرى، لأفاجأ بأنها بالأصل تهديد من عضو في مجلس الشيوخ الفرنسي فاليري بويي القيادية في الحزب الجمهوري!

بل وصلت الأمور بوزير الداخلية هذا، إلى طلب السماح للأجهزة الأمنية، بالدخول والتنصت على المحادثات الخاصة للفرنسيين، في جميع تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي، بكل ما يحمل ذلك من خطورة كشف الحياة الخاصة، لجميع المواطنين، وتعرّضهم لإمكانية الابتزاز.

خوف من الكلام، تهديد بالطرد في حالة التظاهر، تهديد ومن أعلى المستويات، بسحب الجنسية، نتيجة تويتة على الفيسبوك، وكل هذا في فرنسا!!!

بريطانيا أيضاً

الأمر لا يقتصر فقط على فرنسا، بل يمتدّ إلى  جارتنا بريطانيا، التي تفخر بأنها أعرق ديمقراطية، وأقدم مجلس عموم، ومع ذلك فإن اللاعب  الكروي الأشهر محمد صلاح، لم يستطع أن يتكلم، ولا أن يدلي بأي تصريح، رغم مرور أسبوع على الأحداث، وحين خرج بفيديو بسيط من عدة ثوانٍ، ظهرت عليه ملامح الخوف والقلق، خوف وقلق من تصريح، لبطل كروي، في أهمّ بلد ديمقراطي في العالم؟!

نعم، وخوفه مفهوم جداً، (ولا نبرره)، فهو يدرك تماماً أنه لو أدلى بأي تصريح مخالف، لسياسات اللوبي الصهيوني، فإنه سيفتح على نفسه طاقة جهنم، وستنهال عليه الاتهامات بالعداء للسامية والإرهاب، وسيبحثون في كل شاردة، وواردة في حياته الخاصة والعامة، وحين يجدون أيّ خطأ بسيط، ستنهال عليه الاتهامات والقضايا في المحاكم.

حتى الصحفيين

في المقابلة الشهيرة التي أجراها باسم يوسف مع بيرس  مورغان، أحرج باسم المذيع، بأنه شبّه سياسة إسرائيل بداعش، هنا ارتبك جداً مورغان، ليسحب كلامه فوراً، ويقول، وبجملة خارج السياق تماماً: (أنا أشبّه حماس بداعش، وليس إسرائيل).

هذا الاستعجال الذي صرح به مورغان، يكاد يكون قريباً جداً، من أي تصرف لصحفي سوري في الداخل السوري مثلاً، حين يتمّ الحديث عن عائلة الأسد، فلا بد هنا من بعض الجمل مثل: بالروح بالدم، أو القائد الخالد، كي يشعر المذيع، بنوع من الطمأنينة على نفسه، ولاستخدام هذه الجملة لاحقاً، فيما لو اتُّهم بمعاداة الوطن. الشيء نفسه يحصل هنا، لكننا أمام تلفزيون بريطاني، فهل كنا نتخيل أن نصل إلى يوم كهذا!

الخطر على الديمقراطية

منذ انتهاء الحرب الباردة، وتفكك المعسكر الشرقي الذي كان يعتبر العدو الأول للديمقراطية، بدأ المفكرون الغربيون، بالبحث عن الأخطار التي يمكن أن تلحق بالحريات في الغرب. بدأت هذه الأبحاث مع كتاب صموئيل هنغتون الأشهر (صدام الحضارات)، والذي اعتبر فيه أن الإسلام هو الخطر الأكبر على الديمقراطية في الغرب، ثم انهالت البحوث، ليرى بعضهم في روسيا ذلك الخطر، بعضهم رآه في الصين، والآخر في المهاجرين في الغرب الذين يمكن أن يهددوا البنية الديموغرافية لحضارة الرجل الأبيض، وعددوا كل الأعداء المحتملين لتلك الديمقراطية، لكن لم يخطر ببال أحد يوماً،  أن تكون أخطر رصاصة  في جسد الديمقراطية،  ستُطلق من نيران صديقة، بل من الولد المدلل للغرب!

الأوربيون ليسوا أغبياء، وهم يعرفون تماماً الحالة التي وصلوا إليها هذه الأيام، من التهديد لحرية التعبير التي يفخرون بها،  ويعلمون أن الكلام أصبح ممنوعاً، وكأننا في أحد دكتاتوريات جمهوريات الموز، فالحديث في العمل حول القضية الفلسطينية أصبح تقريباً (تابو)، ويحاول الجميع الابتعاد عنه، للحفاظ على نفسه، وللابتعاد عن  أي حديث، ربما يُفسّر بشكل خاطئ، ويجرّ على صاحبه المشاكل ،على مبدأ “الباب اللي بيجيك منو ريح، سدوا واستريح” والباب الإسرائيلي فيه الكثير من الرياح العاتية،  فبعد أكثر من ثلاثين عاماً، من البحث عن الخطر المحدق في الديمقراطية، لم يتنبأ أحد، بأن يأتي هذا الخطر، ويعيش الغربي في خوف من الكلام، والسبب إسرائيل!

على كل، الحرية لا تتجزّأ، إما حرية تعبير كاملة، أو الصمت، وحين تبدأ الأمور بقضية ما، فإنها ستتبع قضايا أخرى (ربما بدأت بعض إرهاصاتها الآن)، وأستطيع القول: إن الأزمة الفلسطينية حالياً هي أكبر امتحان تتعرّض له الحريات في أوربا، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فهل ستنجح أوربا في الخروج من هذه الأزمة منتصرة، والإصرار على حرية التعبير داخل ترابها، أم ستنكسر، ليلحقها انكسارات أخرى؟!

أتمنى أن تنتصر قيم الحرية، لأنها لو انكسرت هنا ، في باريس مونتيسكيو، وجان جاك روسو، فسنكون قادمين على أيام صعبة جداً.
_________________________________________

من مقالات العدد الخامس من صحيفة (العربي القديم) تشرين الثاني/ نوفمبر 2023

زر الذهاب إلى الأعلى