مقامات أمريكية | هل الفن هذه الأيام هو أسوأ مما كان؟!
د. حسام عتال
ليس هناك ما هو أغرب ممن يبحث في منشورات التواصل الاجتماعي عن الفن الراقي، سواء كان لوحة رسم، صورة فوتوغرافية، قصيدة شعرية، أو قطعة موسيقية. والأغرب من ذلك هو أن يستنتج هذا الشخص رداءة الفن في عصرنا الحالي، بعد أن عجز عن إيجاده في صفحات التواصل الاجتماعي، فنراه ينتقد الأعمال التي يلقاها بأقذع الكلام.
ولكن هل الفن هذه الأيام، هو أسوأ مما كان في سابق الأزمان؟!
لا أعتقد. الفن في العصور السابقة كان مهنة يمارسها قلة من الناس ويتلقون عليها أجراً. فالرسام في المدينة كان مثل الحداد، يمتلك تقنية الرسم ويأخذ عليها قيمة عمله. هذا بعد أن تدرّب على يد رسام سبقه، وسيكون له تلاميذ سيربيهم بنفسه وهكذا. أما الموسيقي، فكانت ترعاه الكنيسة أو أحد الأعيان أو الأمراء أو الملوك، وكان يستخدم فنه لغرض ضيق يتعلق بمواسم الدين أو برغبات من وظّفه (عموماً برعاية الطبقات الحاكمة).
اليوم أصبح الفن عاماً متوفراً لمعظم الناس بسبب التقدم التكنولوجي والاقتصادي والفكري، وصار وسيلة للتعبير الشخصي والإبداع الفردي، يُعلّم في المدارس وتتوفر مواده ووسائله في معظم البيوت. هذا الانتشار الواسع نتج عنه تهديم للجدران التقليدية، واختفاء للحرس القديم الذي كان يحمي بوابة الفن، ونشأ عنه تنوع ضخم بأساليب واتجاهات الفن بتنوع الأماكن والثقافات. تلا كل ذلك كمٌّ هائل من الأعمال الرائعة التي لم يُسبَقُ لها مثيل في تاريخ العالم.
فنسأل مرة أخرى: هل هذا الفن أفضل أو اسؤا مما سبقه؟ هل تحرك للأمام، أو نحو الخلف؟ هذا كله يتعلق بكيفية استجابتنا للفن، وهذا هو العامل الذي يتطور مع تطور الفن وغزارة نتاجه. ولكي نستجيب جيداً علينا أولاً أن نأخذ هذا الفن من مصادره، وما أكثرها<
إذهب إلى موقع أي كلية فنون جميلة أو متحف فن، وأنظر إلى الأعمال المتوفرة للعيان؛ أو إن كنت تفضل تصفح الورق، فافتح أي مجلة أو نشرة تهتم بالفنون البصرية، هي منتشرة في المكتبات والمقاهي، ويمكن تصفحها دون أجر وأنت تحتسي مشروبك المفضل.
أو خذ بعض الوقت وتمشّى في إحدى حدائق أعمال النحت الذي أصبحت منتشرة في كل المدن، راقب المنحوتات من جهاتها المختلفة وأدرس كيف تتعامل هذه الأعمال مع الأشياء (حتى الفراغ) المحيط بها، كيف تنساب أو تتقاطع أو تتراكم بطرق لا نهاية لها؟
إن كان في مدينتك فرق موسيقية محلية (أو عالمية)، حاول أن تدعمها بحضورك لأمسياتها، ستندهش لكمية الموهبة التي يمتلكها أفرادها. سترتقي نفسك بالألحان والأنغام الصادة عنها، وسيقدر أفرادها حضورك الداعم.
شاهد الأفلام المستقلة المحدودة التمويل، وهي تعرض في المسارح الصغيرة أو دور السينما أو كليات الفنون: بعضها سيجعلك تضحك، بعضها سيُبكيك، وهناك أفلام ستبقى في داخل نفسك تعود صورها لمخيلتك بين حين وحين.
وابحث عن فن الكتابة في المجلات الدورية المختصة والمواقع القديرة، ستجد كتابات رائعة من شعر ونثر وأبحاث ستغني روحك وترفع من فكرك وخيالك. سترى أن المواد كثيرة، والوقت قليل للاستزادة بها كلها بما يرضيك.
الشيء الوحيد الذي عليك تجنبه هو البحث عن الفن على صفحات التواصل الاجتماعي، لا تفعل ذلك!
لكن، رغم هذا التحذير، اسمح لي أن أضيف وصية صغيرة إن أصررت على فعل ذلك: لا تنتقد من يضعون ما يسمونه (أو يظنون أنه) فناً على هذه الصفحات. لا تسمي من يدعي أنه شاعر شويعراً. لا تسخر إن وضع أحدهم صورة لغروب الشمس فيها الأفق مائل، وعمود الكهرباء يخترقها من إحدى الزوايا. ولا تستصغر رسمة أحدهم لأن منظورها مختل، وألوانها عديمة التناسق. قد يكون من بين هؤلاء، من بدأ مسيرته الفنية وهو لا يزال غضاً، يحتاج للنصيحة والمساعدة كي يتعلم وينضج وينتج ما هو أفضل. إن لم تجد في نفسك الرغبة على مساعدته، فعلى الأقل، دعه وشأنه ولا تنتقده بما يجرح ولا يفيد.