الرأي العام

سيزيف سوريا والأضحكني والرئيس المتخيّل

جيل "الأضحكني"… أولئك الذين لا يرون سوى ما يُضحكهم أو  لا يُعجب ذائقتهم الرقمية

أسامة منير إبراهيم – العر بي القديم

من كان ليتخيّل أن ينزاح كابوس الإجرام والفساد والإفساد الذي جثم على صدور السوريين طيلة أربعة وخمسين عاماً وشهور، كما تُحصى ساعات السجناء في زنزانات اليأس، بعملية عسكرية لم تتجاوز عشرة أيام؟ من كان يصدّق أن نظاماً دق أوتاده في كل مفصل من مفاصل الدولة، يُنتزع هكذا، بقيادة رئيس وجيش من شباب الوطن لم يكن ترند على شاشات التحليل السياسي، ولا في حسابات أجهزة الاستخبارات بوصفه قائداً وجيشه سصنعون معجزة: أحمد الشرع، رئيس إدارة العمليات العسكرية، الذي أدرك أن لحظة الإنقاذ لا تنتظر إجماع المتعبين.

ما جرى في الثامن من ديسمبر 2024، لم يكن انقلاباً ولا ثورة تقليدية، بل كان مشهداً سورياً خالصاً، يشبه القصص الكبرى التي لا تحدث إلا حين يلتقي المستحيل مع الإرادة. وبالرغم من تعقيد المشهد السياسي، واستمرار شبكات العمالة التي استثمر فيها بشار وأدواته، من تجار الدم وناهبي المال العام، وبالرغم من غياب الإرادة الدولية لتغيير النظام، أو التورط في ولادة بديل، فقد أصرّ الشرع على إعادة ضبط البوصلة، وتجاوز التعطيل المزمن الذي طال مؤسسات الدولة تحت مسميات الواقعية السياسية أو التوازنات الإقليمية.

أحمد الشرع، هذا الاسم الذي لم يُكرّس على الشاشات، استطاع أن يفعل ما عجزت عنه معارضات متناسلة من بعضها، أن يقف عند سفح صخرة سيزيف – صخرة سوريا التي ظلّت في مكانها على سفح مائل حد الاستحالة يسندها ويشد أزره شباب مدن وريف سوريا، صخرةٌ بقيت 14عاماً لم تتحرك قيد أنملة، إلا لتسحق من حاولوا دفعها بلا قوة أو بلا نية.
بين من تقاسموا الثورة كحصص مشاريع أو مقاعد وفود، ومن اعتاشوا على التمويل بلا مشروع وطني، ضاعت البوصلة. فهل نلوم الصخرة إن لم تتحرك؟

اليوم، يبدو أن الصخرة تقترب من القمة، وأن دافعيها ليسوا أولئك الذين صدّعونا بخطاباتهم، بل الوطنيون الأوفياء، الذين تحرّكهم نواياهم الخالصة، لا مصالحهم.
أحمد الشرع، لا يدفع الصخرة وحده. خلفه كتفٌ شعبي، وكتفٌ عسكري، وكتفٌ مدني، يلتقون جميعاً في نقطة واحدة: سوريا تستحق أن تُنقذ.

وهنا، يظهر جيل “الأضحكني”… أولئك الذين لا يرون سوى ما يُضحكهم أو  لا يُعجب ذائقتهم الرقمية، يقف بعضهم اليوم في حيرة، لأن الرئيس ليس على مقاس خيالهم. خيالهم الذي لم يعرف ما يعنيه الحكم، ولا إدارة دولة لا لبث ولا نافل القول أنها تحت الصفر، ولا أن يكون الرئيس إنساناً من لحم ودم، بوجه وتاريخ وتوقيع يكرّسه لتحويل آلامهم لفرصة لإكمال الحياة بشكل طبيعي.
الرئيس بالنسبة لهم فكرة غامضة، متخيّلة، يصوغها كل واحد منهم على هواه، كما يصوغون البوستات واللايكات.
لكن الحقيقة أن الحكم ليس خيالًا، ولا تمرينًا في التنظير، بل فعل شجاع، يُبنى على الألم، والخبرة، والإرادة.
وأحمد الشرع، على ما يبدو، يحمل كل هذا وأكثر.

وإذا كانت صخرة سيزيف قد اقتربت اليوم من القمة، فإن القمة ليست سوى هذه اللحظة المفصلية التي تقتنع فيها كل الأطراف، أن سوريا لا تُبنى إلا بالقبول بالواقع، والرهان على أبنائها، خاصة أولئك الذين طُردوا إلى إدلب، فحملوا حنينهم إلى دمشق، وهم في طريقهم إلى بيوتهم، وقراهم، وقبور أحبّتهم الذين لم يمشوا في جنائزهم.

سوريا الخمسينات، وسوريا الستينات، وحتى سوريا الأسد، كلها ذهبت مع الزمن. وأهلها عاشوا زمانهم وليد إرهاصات وظروف وقتهم.
وسوريا المتخيَّلة، تلك التي يصوغها كل مكونٍ على قياسه، ويحذف منها من يشاء، لن تُبنى بوصفها دولة، بل بوصفها وهماً جديداً سيمُزِّق أبناؤه مرة أخرى إن لم يحسنوا ترتيب أولوياتهم.
أما سوريا الواقع — تلك التي تحررت في عشرة أيام، وستحتاج جيلاً أو اثنين ليُستكمل بناؤها — فهي لا تحتاج إلى رؤى مُبهَمة، ولا إلى نواح، ولا إلى كراهية تُوزّع كالخبز، بل تحتاج إلى عزيمة صادقة، تشبه عزيمة التحرير.

ولعلّ أكثر ما أزعجني خلال عشرين عاماً من وجودي في هذا العالم الأزرق، أنني عاينتُ حالات أصدقاء اضطروا لحذف صداقتي لمجرّد أني أشارك صور إنجازات يشهد توقيعها رئيس الجمهورية، فأنا كما يقولون” من جماعته” وبدك تثبت دولة أحمد الشرع! ، هؤلاء الذين حضروا توقيع كتبي، وصفّقوا في محاضراتي وشدهم النقاش معي حولها، وتبادلنا التقدير، لكنهم لم يحتملوا صورة واحدة للرئيس أحمد الشرع، أو خبراً إيجابياً يسهم بصنعه لأجل سوريا. فالسؤال هنا: كيف سنبني معاً على الأرض إن لم نحتمل وجود بعضنا افتراضياً؟ هل هذا نوع جديد من الإقصاء ابتكره السوريون الذين اختلفوا على تصور سوريا؟
كأن سورياهم المتخيَّلة لا تحتمل أمثالي، نحن الذين اخترنا أن نفرح بسوريا الواقعية.
وأقولها الآن ببساطة:
أنا سعيد بسوريا الواقع، وكفى.
سوريا التي تحتاج إلى من يبنيها، لا من يتباكى عليها.

زر الذهاب إلى الأعلى