بيت جن: تحت النار وفوق الانفصاليين
ما حدث ليس مجرد اعتداء عابر، بل تذكير صارخ بأن الجغرافيا السورية لا تزال ميدانا للصراع

نوار الماغوط- العربي القديم
فجر اليوم نفّذ الاحتلال الإسرائيلي عدوانه على بلدة بيت جن بريف دمشق. توغّل جنود داخل البلدة، اعتقلوا ثلاثة أشخاص، خلّفوا شهداء وجرحى، ثم انسحبوا تحت غطاء من طائرات تحوم بصفيرها فوق البيوت، بينما كان أهالي البلدة يتصدّون بما استطاعوا من ثبات، ويمضون في نزوح سريع نحو القرى المجاورة. ما حدث ليس مجرد اعتداء عابر، بل تذكير صارخ بأن الجغرافيا السورية لا تزال ميدانا للصراع، وأن غياب السلام يترك فراغًا تتصارع فيه القوى الإقليمية والدولية على النفوذ والهيمنة.
الأمر الأكثر إثارة للقلق هو وجود أطراف داخل سوريا قد تكون متعاونة مع إسرائيل أو جهات إقليمية، وبعض الشخصيات السياسية المعروفة ، التي قد تسعى لاستغلال الصراع السوري لتحقيق مكاسب شخصية أو سياسية، وتمديد حالة الفوضى بما يخدم مصالحها. هذه العناصر – التي يمكن اعتبار بعضها عملاء مباشرون أو غير مباشر لإسرائيل – تسهّل أحيانًا التدخل الخارجي أو تؤجّله بما يتماشى مع انتهازيتها، ما يزيد من معاناة المدنيين ويطيل أمد الحرب.
في هذا السياق، التحرك السوري الدبلوماسي أصبح أكثر ضرورة من أي وقت مضى. توثيق العدوان أمام مجلس الأمن، واستطلاع مواقف الدول الكبرى، وفضح الأطراف المتواطئة داخليًا، يمثل خطوة أساسية في محاصرة الانتهازية الإقليمية، ووضع حد لمحاولات تقويض سيادة سوريا. القيادة السورية مطالبة باستخدام أدواتها القانونية والدولية لإدانة الهجوم، ولإرسال رسالة واضحة بأن سوريا ليست حقلًا مفتوحًا للتجارب أو الانتهاكات.
وفي هذه الاعتداء يجد بعضهم وقتًا كافيًا ليتمنّى أن تفتح السلطة السورية الانتقالية حربًا مع إسرائيل… يريدون حطبًا لبوستات فيسبوك، وفرصة لتقديم أنفسهم كـ “مناضلين” . وإذا كان لا بدّ من حرب، فالأجدر — كبداية بسيطة — أن يغادر هؤلاء دفء أوروبا، وأن يذهبوا إلى بيت جن لمداواة جريح واحد على الأقل. هذا الفصام بين من يشرب القهوة في الشتات ، ومن يتنقّل حافي القلب بين رصاص وطائرات، ليس جديدًا على السوريين. فقد تشكّلت خلال السنوات الماضية فجوة كبيرة بين سرديات المراقبين من بعيد، وبين التجربة الثقيلة لمن بقي على الأرض. ولعلّ ما يزيد المشهد تعقيدًا أن بعض هذه الأصوات التي تتحدّث عن “خطر الانفتاح على واشنطن” أو “التحوّل في علاقة سوريا مع إسرائيل وأمريكا”، إنما تتغذّى من عقلية قديمة:تلك العقلية نفسها التي خدعت الشعوب العربية منذ أيام جمال عبد الناصر وحتى بقايا الشخصيات المنفلتة من الماضي. عقلية الخوف المستمر، والعالم المنقسم، وتلك النظرة التي تشبه ما طُبّق على العرب لعقود طويلة — أن قوة الشعوب مرهونة بإبقائها شاردة، ضعيفة، متعبة، وأن أي محاولة للنهوض يجب أن تُحبط. لقد كان واضحًا في التجارب التاريخية الكبرى: حين أرادت القوى الدولية نهضة ألمانيا أو اليابان، هيّأت الظروف ورعت المؤسسات ودفعت الأموال وأعادت “برمجة” العقول. وحين لم ترد نهضة الشرق الأوسط، استُخدم العكس: دعم الطغاة، تخريب المشاريع الوطنية، إذكاء الانقسامات، وجرّ المنطقة إلى حروب مفتوحة.. من يرفض اليوم قراءة التحوّل السوري الجديد، يعيش بعقلية الأمس. فالعلاقة مع واشنطن — مهما كانت معقّدة — ليست فخًا بالمعنى الساذج الذي تروّجه الأصوات المتوترة،. إنها تدخل التفاهمات من موقع الندّ، ومن وعي بأنّ التحالفات الدولية تتغيّر، وأن العالم لم يعد كما كان في التسعينيات أو في بدايات القرن الجديد. ولم يعد ممكنًا التفكير بعقلية “ جبهة الصمود والتصدي”، التي تطالب بها مراكز أبحث ودراسات الدوحة .أبناء المدارس التي كانت تستفيد من ضجيج الحرب: الإخوان، العلمانيون المأزومون، وتيارات تعيش على الخطاب المقاوم والممانع وعلى “توازنات دولية” مزعومة من تركيا إلى قطر وصولًا إلى إسرائيل تحاول تشكيل الشرق وفق مصالحها. و ليمارسوا النقد الانتقائي حين بدأت سوريا تتلمّس طريقًا جديدًا للاستقرار.
إن السوري الذي عاش الحرب لا يحتاج إلى البطولات الزائفة. هو يريد السلام: مع نفسه، مع جواره، ومع العالم كله. يريد أن يعيش حياة عادية لا تُحكم بالتوتّر اليومي. يريد دولة تُعيد البناء لا حقن الناس جرعات مستمرة من القلق و الخوف والجوع. يريد سياسة تفكّر ببراغماتية لا بتقلبات إنتهازيه وقحة.
يدرك السوريون أن التحوّل الدولي ضرورة، وأن الانفتاح ليس استسلامًا، وأن الصراع لا ينبغي أن يكون قدرًا أبديًا. المعادلة الجديدة في المشرق تُكتب اليوم بأرقم ودلائل مختلفة . لم تعد واشنطن قادرة على فرض شروط الأمس، ولا دمشق مضطرة لتكرار ردود الأمس. والتحوّل ليس خروجًا من الهوية، بل محاولة لاستعادة هواء نظيف بعد سنوات الرماد. من انتصر في الميدان يعرف كيف ينتصر في السياسة، ومن صمد في بيت جن اليوم يعرف أن الدفاع عن الأرض لا يكون بالصوت العالي بل بالفعل الهادئ المتزن. والأهم أن سوريا ليست مطالبة بأن تُشبع رغبات المتحمسين للحرب من الفيلات الفاخرة في الدوحة و إستنبول أو الشقق الدافئة في اوربا و اميركا ،أو أن تدعم مصالحهم الشخصية وزيادة أرصدتهم المالية في البنوك. بل أن تحمي الذين يسيرون الآن مرهقين على طرقات النزوح، بحثًا عن ليل بلا طائرات. هؤلاء هم الذين يملكون الحقّ الوحيد في تقرير شكل السلام، وشكل المستقبل، وشكل العلاقة مع العالم كله.