أرشيف المجلة الشهرية

غياث مطر: غيث الثورة ومطر الحرية

كان مشهد الورود خلال مظاهرات داريا ينتشر عالمياً، واسم غياث مطر يتردد في الإعلام وفي الشوارع المنتفضة

محمد نور حمشو – العربي القديم

مع انتصار الثورة السورية العظيمة، وسقوط نظام الطاغية المجرم بشار الأسد، تدخل سوريا الحرة مرحلة جديدة مزدانة بالنصر والفخر بأبنائها الذين سطروا التاريخ بأحرف من نار ونور، سوريا الحرة التي طالما حلموا فيها، وبذلوا لأجلها أرواحهم ودماءهم.

طويت صفحة الثورة السورية العظيمة في لحظة تاريخية، ستذكرها الأجيال لمئات السنين، وبدأت مرحلة الحرية والبناء، وعاد الوطن الحر إلى أهله وشعبه، وكسرت الأغلال، وبعودته عادت الذاكرة إلى الشهداء وتضحياتهم،  عادت الذاكرة إلى الذين كانوا جسر العبور نحو الحرية.

وعندما نذكر شهداء الثورة السورية، يحتار القلم، وتتزاحم الأسماء في الذاكرة، وتضيق المساحات البيضاء، فمنهم الكثير والكثير، والصفحات والصحف، والحبر، والأقلام أضعف من إحصائهم.

ولأن البداية هي الأجمل والأشهى والأصدق، بقيت صورة الشهيد “غياث مطر” (غاندي سوريا الصغير)، ابن مدينة داريا في ذاكرة الشعب السوري، وستبقى جيلاً بعد جيل.

إن كان القاشوش حنجرة الثورة، وعبد الباسط حارسها، فإن غياث مطر، هو غيثها وأيقونتها السلمية التي لا تُنسى.

ولد غياث مطر في مدينة داريا ٨ تشرين الأول، وكان شغوفاً برياضة الجودو وكمال الأجسام، وحصل على بطولات محلية، لم يكمل تعليمه الثانوي، لكنه تحول ومدينته داريا إلى أبطال حقيقيين صنعوا التاريخ، ورسموا درب النصر منذ العام ٢٠١١، وحصلوا على بطولات وطنية، تُكتب بماء الذهب، ولحن الكرامة ورائحة الحرية.

لم يُذكر لغياث مطر أي حراك سياسي قبل الثورة، لكن مع اشتعال المظاهرات في سوريا، هبَّ لنجدة أبناء وطنه، ورسم ورفاقه خارطة العمل الثوري بشعار “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد”، و”سلمية.. سلمية”.

لعل غياث مطر أدرك منذ اللحظات الأولى للثورة، أن أكثر ما يكشف النظام الأسدي الدموي ويعريه، هو السلمية والوحدة بين أبناء الشعب السوري، فعمد غياث ورفاقه في تنسيقية داريا إلى تجهيز اللافتات، التي تخاطب عناصر الأمن مباشرةً، لكسر حاجز الرهبة والخوف، الذي صنعه نظام الأسد المجرم بين عناصر الأمن والجيش والمتظاهر، ففلسف غياث مطر مبدأ السلمية باللافتات والهتافات، ومنها: أنا وأنت أخوة.. لو كنت مكانك ما قتلت المتظاهرين السلميين.. الوطن يتسع للجميع..أرجوك دعنا نتظاهر سلمياً، وأضاف إلى الشعارات الورود التي تحمل رسالة المحبة والأمل، وزجاجات الماء التي تعبر عن الصفاء والرحمة، وكذلك “البوالين الكبيرة”، فعمد غياث ورفاقه إلى إرسالها إلى مناطق تواجد القوات الأمنية، وعليها شعارات الوحدة الوطنية والتسامح.

فخرج شباب داريا جميعاً على نهج غياث مطر ورفاقه في المظاهرات، يحملون زجاجات الماء المعقودة بوردة وهتاف “سلمية.. سلمية، الجيش والشعب إيد وحدة”.

ورود داريا زمن المظاهرات السلمية (أرشيف العربي القديم)

انتشرت أفكار غياث مطر السلمية وأساليبه بين المدن الثائرة، وارتعد النظام واهتز، فحاجز الخوف الذي زرعه لسنوات بين المواطن وقوات الأمن بالذات، بدأ يتصدع وشعار الوحدة الوطنية والتضامن بين الجيش والأمن والشعب، تحول إلى أسوأ كابوس للنظام، خلال الأشهر الأولى للثورة، خصوصاً مع وجود تجارب ثورية حديثة، خلال أحداث الربيع العربي أثبتت سقوط النظام بسهولة عندما حيدت الأجهزة الأمنية والجيش، فأصبح بذلك غياث مطر المطلوب الأول والأهم في داريا.

كان مشهد الورود خلال مظاهرات داريا ينتشر عالمياً، واسم غياث مطر يتردد في الإعلام وفي الشوارع المنتفضة، وفهم غياث طبيعة النظام الدموية، فكان حريصاً ورفاقه على التخفي عن الأعين الأمنية، فلجأ النظام كعادته إلى حيله ومكائده، فاعتقل صديقه معن شربجي، وأرغمه على الاتصال بأخيه يحيى شربجي الذي كان برفقه غياث، فاستنجد بهم؛ لأنه مصاب، وآثر مطر الذهاب مع يحيى، لإسعاف أخيه، فأُطلقت النار عليهم، واعتقلوا في ٦ أيلول ٢٠١١.

هبَّ المتظاهرون، يهتفون لغياث ورفاقه، واشتعلت داريا عن بكرة أبيها، وبعد ثلاثة أيام، وفي صباح العاشر من أيلول، اجتاحت قوات الأسد الدموية مدينة السلام، وأيقونة الاحتجاج السلمي “داريا”، وارتكبت مجزرة لا تُنسى، وسلمت جثة غياث إلى عائلته في ما بات يُعرف لاحقاً بيوم السبت الأسود.

اختلفت الروايات حتى كتابة هذه السطور حول استشهاده، فبعضهم رجّح استشهاده في المشفى العسكري بعد إصابته، وبعضهم رجّح في ٩ أو ١٠ أيلول، لكن جميع الروايات أكدت أن جسده يحمل آثار تعذيب عنيفة، وصرح والده أن هناك جرحاً مخيطاً في البطن، مما يؤكد سرقة أعضائه أيضاً.

خرجت المدن الثائرة تهتف لغياث، وتستلهم من روحه التحدي والخلاص، واختلطت الدموع مع الدماء، وثارت داريا من جديد تودع ابنها وملكها الصغير “غاندي الصغير”، وشيع إلى مثواه الأخير في مظاهرة حاشدة، لم تسلم من رصاص قوات الأسد المجرم، وأقيم مجلس عزاء كبير، حضره دبلوماسيون عرب وأوروبيون، ثم بعد مغادرتهم داهمت قوات الأمن المجلس واعتقل العشرات.

وبذلك حيدت قوات الأسد عبر المكر والتعذيب مواطناً عشرينياً خطراً على السلمية الذي هدد عاصمة طاغيتهم من جهتها الغربية.

لم يكد الحراك الثوري ينسى شهيد درعا الطفل “حمزة الخطيب”، حتى أشعلت شمعة الشهيد “غياث مطر” المظاهرات أكثر، وانتفضت المدن من جديد، واهتزت الساحات تهتف لغياث، وتعاهده على مواصلة طريقه نحو الحرية.

وبينما كان النظام يعيد تطبيق بطشه وإجرامه على بقية المدن الثائرة، اصطدم بالمئات والآلاف من رفاق غياث مطر، ففي طريقه إلى إسكات صوت غياث، صنع من أبناء الثورة آلافاً منه، فعبر عن حنقه ووضاعته، بأن اعتقل أخاه حازم بعد سنة، ثم أخاه الآخر أنس بعد سنة أيضاً. كانت عائلة غياث ترعبهم وكنية مطر تحرقهم، كان حقدهم على العائلة يأخذ منحىً هستيرياً شهوانياً أو حيوانياً، فلجأت العائلة إلى التخفي، واختارت مدينة السويداء، وأكملت حياتها بصمت وقهر بعيداً عن آلة القمع الأسدية.

نجح النظام الأسدي في تحييد جسد غياث مطر وتصفيته، لكن أدبياته الثورية ونشاطه السلمي، ظل يرافق الشعب الثائر في كل مظاهرة وكل اعتصام؛ لأن هذه الأدبيات، وهذا النشاط عبر عن حقيقة المجتمع المدني السوري الساعي للتحرر والخلاص من الاستبداد والديكتاتورية، وإقامة دولة تضمن حقوق المواطن، وتحترم أحلامه، وقد تنبأ مطر بسقوط النظام الحتمي فقال: “تذكروني عندما تحتفلون بإسقاط النظام وتحرير الوطن من العابثين، تذكروني كلما غرستم شتلة ياسمين”.

كما دعا الشباب الثائر إلى مواصلة الفعل الثوري، بعد استشهاده حتى تحقيق الحرية فقال: “إن آلمكم خبر استشهادي، فاعلموا أنني قد نلت السعادة والحرية في آن معاً، وأنني أتمنى أن أعود للحياة لأرفع مجدداً راية الحق والعدل والكرامة والحرية وأستشهد من جديد”.

لم يشاركنا غياث مطر فرحة النصر بسقوط النظام المجرم، لكن روحه وأدبياته وأفكاره الثورية لم تفارق قلوب الشعب السوري الذي أكمل ما بدأه غياث وحرر سوريا، وأصبحت مدينة “العنب والدم” داريا حرة وجثمانه حراً.

بينما عائلته لا تزال تستقبل آلاف الشباب السوريين مرددين: “أم الشهيد.. نحنا ولادك”، وتتطلع كبقية العوائل السورية المكلومة إلى العدالة الوطنية والاجتماعية، والاقتصاص من كل مجرم، أو قاتل أو منتهك حرمات.

ولأن الطغاة لا يتعلمون من دروس التاريخ وعبره، ويغريهم البطش والدماء، كان الأسد مثالاً آخر، يضاف إلى كُثر قبله، حاول إسكات صوت الحق، واعتقل وقتل ملايين السوريين الحالمين بالحرية ولم يفلح، حاول التخلص من غياث مطر؛ لأنه كشف كذبه ودمويته وعنفه الممنهج، فإذا به يصبح غيثاً للثورة، ومطراً للحرية لا يتوقف ولا يهدأ.

  _________________________________________

 من مقالات العدد الثامن عشر من (العربي القديم) عدد الاحتفال بالنصر، الخاص بشهداء ثورة القرن – كانون الأول/ ديسمبر 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى