العربي الآن

الجنوب السّوري: عشرات الصّحفيين لنقل الحقيقة والقيود في أيديهم

العربي القديم – حازم العريضي *

شرف الدين: الإعلام البديل في الحالة السّوريّة لم يعد “بديلاً”، إنه تقريباً الإعلام الرئيسي الذي يستقي منه الجمهور أخباره.

تراجعت التّغطية الإعلامية لتجدّد الحراك السّوري جنوبيّ البلاد مؤخّراً، والبعض عزا ذلك إلى احتلال الحدث الإقليمي في غزة عناوين الأخبار على مستوى عالمي. بينما يعيد آخرون الأسباب إلى غياب الدّعم المطلوب للصّحافة المستقلّة، إذ يتصدّى لمهمّة نقل الخبر صحفيّون ونشطاء سوريّون يعملون في بيئة تعدّ الأخطر عالميّاً على العمل الصحفي (1).

من جهته يتّخذ النّظام موقف التّجاهل لمظاهرات السّويداء المنادية بتنفيذ القرار الأممي 2254 وإسقاط النّظام؛ خلا اتهاماتٍ بالـ”العمالة للخارج” لتنفيذ “مخطّطات تقسيم البلاد”، وهو خطابٌ تواظب وسائل الإعلام الرّسميّة وشبه الرسميّة التّابعة للنّظام على ترويجه؛ بل إن النّظام يعتمد على “إعلاميّين” موالين لبثّ دعايته، وتوجيه تهديداتٍ للصحفيّين المحليّين في السّويداء.

نبحث عزيزي القارئ في هذا التقرير المطوّل في واقع حريّة التّعبير(2) والمصاعب المقيّدة لحريّة الصّحافة جنوبيّ البلاد، ونتساءل إن كان الإعلام البديل يسدّ حاجة الجمهور للحصول على المعلومات (3)؟

صورة تعبيرية لعمل الصحفيين السوريين في ظل انتهاكات النظام – المصدر السويداء 24 – ساحة الكرامة

“الإعلام البديل” وصناعة الحدث

يشيدماهر شرف الدين، شاعر ومفكر، بأداء المؤسسات الإعلامية المحليّة في السويداء، ويرى أنها “بلا أي تمويل حقيقي أسسها ناشطون” وأصبح تأثيرها الإعلامي أكبر بكثير من “وسائل إعلام يصرف عليها النظام أموالاً طائلة”، وفق تعبيره.

شرف الدين يعدّ “الإعلام البديل” مساهماً في صنع الحدث، ويضيف “من المعروف أن هناك إجماعاً في الرأي حول الدور الكبير الذي لعبه هذا الإعلام في ثورات العالم العربي.”، وذلك في حين لا تزال نسبة من الصحفيين تتمسك بالحياد معياراً لا غنىً عنه في التغطية الإعلامية ونقل الحدث فحسب، وهنا يبقى التساؤل مفتوحاً إن كان الإنحياز لحقوق الناس وتشجيع التغيير الديموقراطي من واجبات العمل الصحفي.

ويميّز المضطلعون في الحقل الإعلامي بين مساحة حرية التعبير بوصفها حقاً تسهل ممارسته في وسائل التواصل الاجتماعي وبين الحدود التي لا تزال تفرضها القوانين والمعايير الصحفية على عموم “المؤسسات الصحفية التقليدية”، إن جاز التعبير.

ويبقى الإعلام التابع للنظام خارج المعادلة بمعايير الصحافة التقليدية والإعلام البديل  كليهما معاً، والسبب بحسب شرف الدين هو أن “الإعلام البديل ليس ابناً فقط للتطور التكنولوجي، بل هو أيضاً ابنٌ لضعف الثقة الشعبية بما يُسمَّى “الإعلام الرسمي” الذي غالباً ما تُديره الحكومات والمؤسسات الكبرى النافذة لتعزيز مصالحها.”  

ويستشهد ماهر شرف الدين بعدد المشاهدات معياراً، بالقول “يكفي أن ننظر إلى أرقام المشاهدات والقراءات العالية التي يُحققها “الإعلام البديل” السوري، ثم نقارنها بالأرقام الهزيلة للإعلام الرسمي، لنعرف أين يضع الناس ثقتهم.”، ويشار هنا إلى أن مجموعة من البرامج السورية على منصة يوتيوب تحظى بعشرات آلاف المشاهدات خلال ساعات من بث موادها على اختلاف مشاربها، ومنها برنامج ماهر شرف الدين “مواكبات”.

ماهر شرف الدين معد ومقدم برنامج “مواكبات” – صورة من موقع التصوير

صحفيّون في مواجهة الخطر

تجدُّد حراك الجنوب السّوري مؤخراً يأخذ جلّ تركيز مؤسسات محلية محترفة وتجسّد الإعلام البديل على مستوى محلي، إلّا أن الصحفيين معرّضون لمخاطر على الأرض ليحافظوا على تغطية حيادية وعلى مسافة واحدة من مختلف الأطراف.

الصحفي ريان معروف (4)، مدير شبكة السويداء 24، يرى أن تجربة المجتمع المحلّي أتاحت الفرصة لنشوء صحافة مهنيّة، مشيراً إلى محاولة مؤسستهم منذ نشأتها “التماهي أكثر مع الحالة الشعبية الموجودة في السويداء”، ويضيف “السويداء كانت، إلى حد ما، بمنأى عن الحرب والصراع، وكانت نسبة الموالاة والمعارضة محدودة مقارنة بالرماديين في المجتمع وبالتالي وُلدت تجربتنا بوصفها صحافة محايدة، والصحافة المحايدة، كما تعلم، هي الصحافة المهنية”.

وبمواجهة دأب وسائل الإعلام التابعة للنظام على تصوير المجتمع زوراً على أنه موال للسلطة بالمطلق، يبيّن معروف أن الشبكة ظلت تحاول أن تكون ناقلة للخبر لا صانعة له.

ويوضح معروف أن عمله في توثيق الانتهاكات عرضه شخصياً للتهديدات من مختلف الأطراف أو “قوى الأمر الواقع” كما يصفها، وبالدرجة الأولى، بما لا يدع مجالاً للمقارنة، يستعرض تهديداتٍ خطيرةً من أجهزة النظام والميليشيات التابعة له طالت نشطاء لمجرّد “الشبهة” بتعاونهم مع السويداء 24، ومثال ذلك “ مطلع هذا العام استدعى جهاز أمن الدولة (أحد فروع المخابرات التابعة للنظام في سوريا) اثنا عشر ناشطاً من السويداء“، كما يقول.

من جهته، الصحفي سليمان فخر(5)، مدير شبكة الراصد الإعلامية المحلية في السويداء، يشير إلى مخاطر مواكبة الانتفاضة الشعبية في المحافظة، ويوضّح أن التغطية “أسهمت في كشف هوية بعض العاملين في الشبكة بعد اضطرارهم للإفصاح عنها لضمان المصداقية؛ الأمر الذي قد يعرضهم لمخاطر أمنية محتملة”، وهو الأمر الذي يتفق معه أيضاً مدير شبكة السويداء 24.

صورة تعبيرية من وقفة نقابة الصحفيين التابعة للسلطة دعماً لرأس النظام –السويداء

“إعلام النّظام”.. الغائب الحاضر

خلال إعداد هذه المادة، ومن باب التوازن والتزام مبدأ حرية التعبير، طرحنا أسئلة على صحفي موالٍ للنظام وله صفة اعتبارية في “الاتحاد العام للصحفيين السوريين” (نقابة الصحفيين التابعة للسلطة).

وتعمّدنا أن تكون الأسئلة بسيطة واضحة للتعليق على تجاهل “الإعلام الرسمي” تقديم تغطية متوازنة للحراك السوري، لكننا لم نتلق جواباً.

 ومقابل تجاهل “الإعلام الرسمي” للحراك يستمرّ بعض الناشطين الموالين للنظام على السوشيال ميديا في بث رسائل يومية، يعتمد مضمونها بالدرجة الأولى على انتهاك الحق في الخصوصية (6)، إذ يبث ناشط موالٍ يدعى رفيق لطف مقاطع صوتية وصوراً حصل عليها عن طريق التجسّس على مجموعات “واتساب” وصوراً شخصية يقول إنه حصل عليها بطرقه “الخاصّة”.

وفي هذا الصدد، يروي الصحفي عبادة كوجان من فريق “تلفزيون سوريا” تجاوز  الأمر ذلك إلى التّهديد، مشيراً إلى أن “رفيق لطف خرج في بث مباشر على صفحته الشخصية، ليوجه اتهامات مباشرة لمراسلنا في السويداء، حمزة المختار، وهو اسم حركي بالمناسبة..”، ويضيف كوجان أن التهديدات تضمنت اتهاماً للمختار بكونه يتبع “أجندات استخباراتية خارجية” على حد زعم لطف.

عبادة كوجان مدير وحدة المدخلات في تلفزيون سوريا

بعد غياب أورينت: “تلفزيون سوريا” ينفرد بالتّغطية

تراجُع التغطية الإعلامية الخارجية للقضية السورية عموماً ليس الأوّل من نوعه، إذ كان النظام قد حظر وسائل الإعلام العربيّة والدوليّة مطلع الثّورة عام 2011.

ويفتح هذا باب التساؤلات وسط غياب الفضائيات باستثناء تلفزيون سوريا، غير الحكومي، وتزامناً مع غياب قناة أورينت، التي خاض صحفيّوها غمار التغطية في الداخل السّوري على امتداد عقد ونيّف، كما غيّب كثر منهم الموت بقصف النظام وحليفيه الروسي والإيراني، بالإضافة إلى أن بعضهم لا يزال معتقلاً لدى النظام وغيره من قوى الأمر الواقع.

وفي  سياق آخر، يؤكد عبادة كوجان، مدير وحدة المدخلات في تلفزيون سوريا، أنهم اتّخذوا القرار لإشهار تغطيتهم على نحو علني لمواكبة انتفاضة السويداء بالطريقة الأمثل، يقول كوجان “نعمل بشكل أسبوعي على بث المظاهرات مباشرة على الهواء رغم الصعوبات التقنية التي تواجهنا، وفي ظل الاحتجاب المؤسف للإعلام العربي عنها..”.

ويشير كوجان إلى أنه ورغم أن “العمل الصحفي في مناطق سيطرة النظام السوري هو الأصعب على الإطلاق.. استطعنا بناء فريق في دمشق وحلب والساحل السوري والمنطقة الوسطى والجنوبية..”

ويصف كوجان التغطية في السويداء بالـ “تجربة الفريدة” وأن لا مثيل لها في مناطق سيطرة النظام، فمنذ عام 2017 بدأ عمل تلفزيون سوريا على بناء وتدريب فريق هناك.

شعار شبكة السويداء 24 – مقرها الجنوب السوري

نمو الإعلام المحلّي في السّويداء

يتصاعد دور المنصات المحلية في السويداء، وإلى جانبها المنابر على السوشيال ميديا.

ثلاث وسائل إعلام رئيسة فرضت وجودها في السويداء، وهي: السويداء 24، والراصد، بالإضافة إلى مركز إعلام الانتفاضة.

ويعود تاريخ إنشاء السويداء 24 والراصد إلى سنوات، إلا أن نمو دورهما المواكب للحراك كان مرحلة جديدة، ويقول ريان معروف عن حضور السويداء 24 في المرحلة الجديدة “الحراك فتح آفاقاً أكثر للتغطية، واستطاع مراسلونا لأول مرة التواجد بشكل علني في السّاحة (ساحة الكرامة) وبين الناس”، ويضيف “الحراك، الذي يشكل انتفاضة غير مسبوقة، تطلب هذا النوع من التغطية الأكثر علنية وجرأة رغم وجود كل المخاطر”

من جهته يشير سليمان فخر إلى أنه رغم المعوقات اللوجستية التي شكلت تحدٍّ كبير لفريق شبكة الراصد بالتزامن مع اتساع رقعة الاحتجاجات، ويضيف ” تخطينا لهذه التحديات رغم قدراتنا التقنية البسيطة كان له أثر إيجابي لدى وسائل الإعلام السورية والعربية التي اعتمدتنا كمصدر للخبر الموثوق..”

ومع نجاح الشبكات الإعلامية المحلية لا بد من الإشارة إلى أن ضعف الدعم يهدد بالإغلاق في بعض الأحيان كما في تجارب سورية سابقة وليس آخرها موقع “بلدي نيوز” الذي يُرجح أن يتعرض إلى الإيقاف الكامل أو الجزئي بسبب اقتصادي مادي.

شعار شبكة الراصد – مقرها الجنوب السوري

اللحاق بالرّكب 

الصحفيون السوريون بذلوا ولا يزالون كل ما يستطيعون لمتابعة المهمة، لكنهم يحتاجون دعماً لإزالة ما يعيق عملهم، من توفير شبكة اتصالات كالتي يحظى بها معظم سكان المعمورة، وغيرها من المسائل اللوجستية المعززة لحرية الوصول إلى المعلومة ونقلها.

ومع ضعف الإمكانيات إلا أن هؤلاء قد أثبتوا قدرتهم على مواكبة أحدث حقول الإعلام من صحافة البيانات والتحقيقات الاستقصائية المبنية على الحقائق الصلبة بعيداً عن الأيديولوجيا التي تشوب لغة نسبة لا يستهان بها من وسائل الإعلام التقليدية والعصرية في آنٍ معاً.

خلاصة القول، يتابع الصحفيون والنشطاء السوريون نقل الخبر في بيئة تصنف بالأخطر عالمياً على حرية العمل الصحفي، معرِّضين أنفسهم إلى دفع أثمان باهظة في بعض الأحيان.

ودافعهم قد يكون الأقرب إلى ما يُفترَض أن تكون عليه رسالة الصحفي، بوصفها واجباً، وبوصفهم صحفيين من أجل حقوق إنسان.

* “أُنتجت هذه المادة الصّحفية بدعم من منظّمة صحفيّون من أجل حقوق الإنسان الكنديّة وبرنامج الأمم المتّحدة للديمقراطيّة.”

*حازم العريضي صحفي سوري عمل في الصّحافة الاستقصائيّة (دمشق) وفي الإعلام المرئي في لندن واسطنبول وعمّان.

الهوامش

1. النظام السوري وحليفه الروسي مسؤولان عن قرابة 81 % من حصيلة الضحايا من الصحفيين والعاملين في مجال الإعلام – التقرير السنوي للشبكة السورية لحقوق الإنسان ( 03/05/2023)

2. حرية التعبير حق أساسي من حقوق الإنسان على النحو المنصوص عليه في المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

3. اكتسب حق الجمهور في الحصول على المعلومات زخماً باعتراف اليونسكو به في السبعينيات، كما يشكل علامة فارقة بالنسبة للعمل الصحفي في بلدان كالولايات المتحدة والسويد.

4. ريان معروف اسم حركي (مستعار) لتلافي مخاطر الإعتقال من الأجهزة الأمنية كما يقول.

5. سليمان فخر اسم حركي لتلافي المخاطر.

6. الحق في الخصوصية (المادة 12) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.  

زر الذهاب إلى الأعلى