حمزة الخطيب: الطفل، الشهيد، تحت التعذيب
في ذاكرتي يرتبط اسم حمزة الخطيب باسم طفل آخرَ، هو ثامر الشرعي، ابن قرية الجيزة الذي استشهد تحت التعذيب أيضا!
محمد منصور – العربي القديم
لن أنسى ذلك اليوم الربيعي الحزين
أواخر أيار/مايو من عام 2011، كنا نغوص جميعاً في صخب وسجالات مؤتمر المعارضة الأول في أنطاليا، الذي أُطلق عليه (المؤتمر السوري للتغيير)، حين وصلتنا تلك الصور الوحشية المرعبة، الصور التي لم يتخيّل أيّ سوري أن يراها في حياته، الصور التي لم يكن ثمّة سوريٌّ يتمنّى أن يراها في حياته.
صحيحٌ أنّنا قبل أسابيعَ قليلةٍ، كنا نرى صور إهانة وإذلال الناس في ساحة قرية البيضا ببانياس، لكن تلك كانت لشباب ورجال القرية، أمّا هذه فكانت لطفل، طفل شهيد، بل طفل شهيد تحت التعذيب! وقد عرفنا في ما بعد، أن اسمه الذي لن يُنسى من الذاكرة السورية أبداً، هو حمزة الخطيب.
سرتْ في المؤتمر الصاخب، المليء بالثرثرات السياسية لسوريين يخوضون لأوّل مرّة تجربة المؤتمر السياسي الحر، سرتْ فيه رعشةُ الموت والصمت. صمتنا جميعاً، وكأنّ كلّاً منّا كان يُخفي غصّته، إزاء تلك الصور التي لم تكن تُحتمل، وحين كنا نبتلع غصّتنا، كان كلامنا يتمحور حول حمزة الخطيب، طفل الثلاثة عشرة ربيعاً، الذي عُذّب، وقُطع ذكرُه، ومُثلتْ بجثته قبيل قتله. تحدث كثيرون عن رمزية قطع العضو الذكري: سنخصيكم، ونقطع نسلكم، إن فكرتم أن تثوروا على حكمنا.
المريع أكثر، أنّ هذه لم تكن رسالة السلطة، بل رسالة طائفة السلطة، وخصوصاً مع تواتر المعلومات عن تعرض حمزة الخطيب للتعذيب، داخل مساكن ضباط مستوطنة مساكن صيدا التي كانت تضم ضباطاً علويين وعائلاتهم.
اليوم، بعد ثلاثة عشر عاماً من حدث استشهاد حمزة الخطيب، أيْ بعد السنوات التي تُعادل عُمْر حمزة الذي عاشه حتى استنشهاده. لا تبدو هذه الخلفيات الطائفية مهمة، لا تبدو ذات قيمة مُحركة أو مُحرّضة؛ لأنّ السوريين لا يبحثون عن الانتقام، ولأن سمة الشهادة الرفيعة أعلى وأثمن من قيم الانتقام الغريزي، رغم ما تنطوي عليه الحالة من جريمة شنيعة بكل المقاييس، تستحق القصاص العادل. لكن حمزة الخطيب، لم يعد ذلك الطفل الذي يمكن أن يثأر له أهله، أو أبناء محافظته، أو قريته… لقد تحول حمزة إلى أيقونة شهادة مثلى في مسيرة حرية شعب.
الطفل الذي وُلد في قرية الجيزة في ريف درعا الشرقي عام 1998، والذي خرج حاملاً علبة الحليب، ليفك الحصار الذي فرضه جيش الأسد الطائفي على مدينة درعا، الطفل الذي تشرب معنى الشهامة والنخوة والمروءة الحورانية من أنقى ينابيعها. كبر خلال أيام، ليغدو شهيد وطن مُعذَّب، وطن مثّلوا بجثته وأنهكوها بالأحقاد الطائفية المريضة، لكن الوطن الذي لا يموت أنجب شهيداً، يبقى حياً ولا يموت.
تقول المعلومات: إن حمزة بن علي الخطيب، اعتُقل لمدّة شهر، خلال مجزرة (مساكن صيدا) التي ارتكبتها قواتُ الأسد في التاسع والعشرين من نيسان / إبريل عام 2011، وإن اعتقاله جاء بعد أن نصبت قوات الأسد كميناً لجموع المدنيين العُزّل، الذين خرجوا من بلدات الريف الحوراني، لفك الحصار عن مدينة درعا، حاملين الخبز والحليب لأطفالها، فاعتُقل حمزة، وعُذّب قبل أن يستشهد في الخامس والعشرين من أيار/مايو 2011، وتُسلّم جثته لأهله في اليوم التالي، بعد ادعاء النظام، أنّه وُجد مقتولاً وممثّلاً بجثته.
حين انتشرت صور حمزة الخطيب الشهيد تحت التعذيب، أسّس ناشطون على السوشيال ميديا صفحة (كلّنا حمزة الخطيب)، التي حازت خلال أيام معدودة على نصف مليون مشترك، ثم صارت إحدى صفحات الثورة، ونشر أخبارها.
في صيف العام 2012، وعلى مقربة من بيتي الذي كنت أسكنه في منطقة كورنيش البحيرة بإمارة الشارقة، ظهرت لوحةٌ كبيرةٌ مزخرفة بالخط العربي على الواجهة الزجاجية لبرج سكني ضخم، تحمل اسم (حمزة الخطيب)، وقد تساءل السوريون المقيمون في إمارتَي الشارقة ودبي المتجاورتين، إن كان ثمّة تشابهُ أسماء، أم أن المقصود بالاسم حقاً، هو الشهيد الطفل حمزة الخطيب، ابن بلدة الجيزة، وتداولت المحطات التلفزيونية صور جثته التي تعرضت لتعذيب وحشي، شكل صدمة للرأي العام العالمي، وبعد اكتمال بناء البرج، توافد السوريون للسكن في هذا البرج، بعد أن تأكد العديد منهم من تطابق الأسماء. وقد حدثنا العديد منهم في وقت سابق أنه يعتز بالسكن في برج يحمل اسم شهيد من شهداء ثورتهم، وقد سعيت حينها للسؤال عن مالكي البرج، إلّا أنّهم فضّلوا عدم الكشف عن هويتهم، واكتفوا بالقول، إنّ البرج شراكة بين رجل أعمال سوري ومالك إماراتي، وإنّ تسمية البرج، جاءت تكريماً لذكرى الشهيد الخطيب.
لم يكن حمزة الخطيب، هو الطفل الوحيد الذي استُشهد تحت التعذيب، في ذاكرتي يرتبط اسم حمزة الخطيب باسم طفل آخرَ، هو ثامر الشرعي، ابن قرية الجيزة أيضاً. أذكر حالة الرعب والألم التي انتابتني، حين قرأتُ في صحيفة الشرق الأوسط شهادة عن تعذيب ثامر الشرعي، الطفل الذي شارك في 29 نيسان/ أبريل 2011 في مظاهرة سلمية في بلدة الجيزة، تطالب بفك الحصار عن درعا، فاعتُقل في نفس اليوم، توجّه والده إلى مساكن صيدا، ليشارك في إسعاف الجرحى، الذين أطلق النظام النار عليهم، حاول الأب إخراج ابنه من المعتقل فلم ينجح، لم تشفع له سنّه الصغيرة، ولا طفولته وهو الذي لم يتجاوز الخمسة عشر عاماً (مواليد الجيزة 1996).
داخل مركز اعتقال رثّ في دمشق، انهال ثمانية محققين ضرباً بالهراوات على مراهق نحيف مكبل اليدين، مصاب بجرح في الجانب الأيسر من صدره من جراء تلقي رصاصة. ظلوا يضربونه على رأسه وظهره وقدميه وعضوه الذكري، ثم تركوه ينزف من أذنيه على أرض الزنزانة، ويصرخ مستغيثاً بأمه وأبيه. سمع إبراهيم الجهماني، أحد نزلاء الزنزانة، الذي قال إنه شاهد ما حدث لهذا الفتى في سوريا في مايو (أيار) 2011، كان المحققون يطلبون من الفتى، أن يقول إنه “يحب”، لكن الفتى لم يكن قادراً على الاستجابة.
علم والد ثامر في 8 حزيران/يونيو 2011، بوجود جثث مجهولة في مستشفى درعا، وعندما شاهد الصور شكّ في أن إحداها لابنه، رغم التشوه الكبير فيها، حيث لم يتمكن من التأكّد من هوية طفله من وجهه، وإنما من أثر حرقٍ قديم على إحدى يديه، كان يحفظه.
وبحسب تقرير الطب الشرعي، فإن الجثة وصلت منتفخة وتفوح منها رائحةٌ كريهة، وإن هناك فجوةً في أعلى الأنف، كما تحدّث عن العديد من الطلقات النارية التي أصيب بها وجه وفم وبطن وظهر وكتف ورجلا الطفل، قبل أن يفارق الحياة. وتشير صورٌ إشعاعيةٌ للطفل، يحتفظ بها والده إلى حجم الفجوات في جسده جراء الرصاص الذي أصابه، وآثار التعذيب التي تعرّض لها قبل موته، ويقول والده إن الأطباء أبلغوه بأن الفجوة في أعلى الأنف، سببها مثقب يشبه “الدريل”!
من مثقب تامر الشرعي إلى الثقب الذي حاولت القدم الهمجية أن تحدثه في قبر حمزة الخطيب.
فحين تمكنت قوات نظام التوحش والأحقاد الطائفية، أن تدخل درعا في تموز من عام 2018، ذهبت إلى قبر حمزة الخطيب في قريته الجيزة، لتحطم شاهدته وتحاول محو ذكره. انتشرت صور الاعتداء على حرمة قبر الطفل الشهيد على وسائل التواصل الاجتماعي، لتظهر كم من الصبر، وكم من الألم على السوريين أن يتجرّعوا على أحبائهم أحياءً أو وهم يرقدون في قبورهم. حينها نشر رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي (وليد جنبلاط)، عبر صفحته الخاصة في موقع “تويتر” صورة لضريح (حمزة الخطيب)، الذي تمّ الاعتداء عليه من قبل ميليشيات أسد الطائفية، وعلّق: “لن ننسى الشهيد حمزة علي الخطيب”.
مع سقوط النظام وانتصار الثورة، عاد اسم حمزة الخطيب هذه المرة من خلال شقيقه، فقد كشفت أم حمزة الخطيب أن ابنها (عمر)، وهو الشقيق الأكبر لحمزة كان معتقلاً… وقد انتظرت الأم المكلومة خروجه بعد فتح أبواب السجون والمعتقلات، وتحرير السجناء، “كنت أفكر أنه ربما سيأتي اليوم أو غداً، واليوم تلقيت خبر وفاته في أثناء الاحتجاز”.
مات عمر تحت التعذيب مثل شقيقه حمزة، وعاشت أم الشهيدين، لتقول لبي بي سي إنها تتمنى للأسد الفار أن يعيش ما عاشته. تُرى هل يدرك العالم، وهل تدرك البشرية كلّها أيّ ثمن باهظ دفعه السوريون، لقاء حريتهم وانتصار ثورتهم؟
_________________________________________
من مقالات العدد الثامن عشر من (العربي القديم) عدد الاحتفال بالنصر، الخاص بشهداء ثورة القرن – كانون الأول/ ديسمبر 2024