الرأي العام

خطبة لم يقُلها قس بن ساعدة الإيادي

من ملك الفضَّة الكثيرة يمكن أن يكون سعيدًا، ومن ملك شعيرًا كثيرًا يمكن أن يكون سعيدًا، ولكن من لا يملك شيئًا يمكنه أن ينام

عبد الرزاق دحنون – العربي القديم

قال تعالى في كتابه العزيز: هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور. أقول: لما أقبل النبي محمّد صلوات الله وسلامه عليه من غزوة تبوك استقبله معاذ بن جبل، فصافحه النبي ولا حظ خشونة كفيه، فسأله لماذا هما جافتان غليظتان، فأجابه بأنه كان يحرث بالمسحاة ويُنفق على عياله، فقبَّله-أو قبَّلهما- وقال لا تمسّهما النار.

أما بعد

تقول العرب: المرءُ حيثُ يضع نَفسه، إن رفعها ارتفعت، وإن قَصَّر بها اتضعت. وابن نباتة -عبد العزيز بن عمر- من شعراء سيف الدولة يقول: حاول جَسيمات الأمور ولا تقل/ إنَّ المحامد والعُلى أرزاقُ. وقيل: المكارم موصولة بالمكاره.

وقد أصبح المال ضرورة من ضرورات الحياة، مع أنه مكيدة من عمل الشيطان: جاء في محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني: لما ضُربت الدراهم والدنانير صَرَخَ إبليس صرخة وجمع أصحابه، فقال: قد وجدتُ ما استغنيت به عنكم في تضليل الناس، فالأب يقتل ابنه والابن يقتل أباه بسببه. وقال يونس بن حبيب، النحوي المفسر، إمام نحاة البصرة في عصره: لو أن الدنيا مملوءة دراهم، على كل درهم مكتوب: من أخذه دخل النار، لأمست وما عليها درهم واحد.

والشاعر يقول: حيّاك من لم تكن ترجو تحيته/ لولا الدراهم ما حيّاك إنسان. وقيل ما روي أجود من قول عُروة بن الورد في ذمّ الفقر: ذَريني للغنى أسعى فإني/ رأيت الناس شرهم الفقير. وشكا بعضهم فقره فقيل له: أحمد الله الذي رفع السماء بغير عََمَدٍ. فقال: وددتُ أنه وسَّع رزقي وجعل بين كل ذراع أربعة أعمدة، فليس لي دار يُضيقها. وقد جاء في أحد الأمثال السومرية المدونة على لوح طيني صغير من الألف الثالث قبل ميلاد السيد المسيح: من ملك الفضَّة الكثيرة يمكن أن يكون سعيدًا، ومن ملك شعيرًا كثيرًا يمكن أن يكون سعيدًا، ولكن من لا يملك شيئًا يمكنه أن ينام. ويحكى أن جحا دفن كنزاً في الصحراء فلما أراد علامة تدل على مكان الكنز لم يجد غير سحابة صيف جعلها دليلاً على موضع كنزه.

أما بعد

فقد نظر السيد المسيح إلى جمع وكنز الأموال بوصفهما من أبواب الشرك، إذ هما يتعارضان مع الإقرار بوجود الله كرب واحد يجب عبادته دون غيره. ومن هنا اعتبر الغنى إثماً من الكبائر -وكأن الغنى معصية- التي تمنع مرتكبيه من الدخول إلى ملكوت الله. جاء في الإصحاح التاسع عشر الآية الرابعة والعشرين من أنجيل متى: أقول لكم إن دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله. وقد تشدَّد يسوع الناصري في هذا المعيار، فرفض دخول الأغنياء في جماعته. وفي إنجيل متى أن شابًا أراد أن يكون من أتباعه فقال له: إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء فيكون كنزك في السماء وتعال اتبعني.

وفي حادثة شهيرة روتها الأناجيل تقول: دخل عيسى بن مريم إلى بيت الله وأخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون، وقلب موائد الصيارفة، وقال لهم: مكتوب بيتي يدعى بيت الصلاة وأنتم جعلتموه مغارة لصوص. وقد شملت تعاليمه تحريم كنز الأموال حيث جاء في أنجيل متى: لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يُفسدها السوس والصدأ وحيث ينقب السارقون؛ لأنه حيث يكون كنزك يكون قلبك أيضاً. وقصد عيسى بن مريم أن القلب لا يجمع بين محبوبين، الله والمال.

والمفاجأة المحزنة أن تكون الفضَّة سببًا في تسليم السيد المسيح إلى أعدائه كي يصلبوه. جاء في الإصحاح السادس والعشرين من أنجيل متى: ذهب يهوذا الإسخريوطي إلى رؤساء الكهنة وقال: كم تعطوني لأسلمه إليكم؟ فوزنوا له ثلاثين قطعة من فضَّة. وهذه -في رأي- علّة قوية لتحريم الكنز.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى