مؤتمر الحوار الوطني في دمشق: بين الرمزية والتحديات الحقيقية
عدم وضوح الرؤية لدى كثير من المشاركين حول ماهية الدور الذي يفترض أن يلعبوه في هذه المرحلة

مهدي الناصر – العربي القديم
في مشهد لم يكن متوقعًا قبل بضعة أشهر، اجتمع السوريون في قصر الشعب بدمشق ليبدأوا فصلًا جديدًا في تاريخ التحول الوطني، هذه اللحظة، التي حملت رمزية عالية وأثارت آمالًا واسعة بإمكانية فتح صفحة جديدة، لم تكن مجرد حدث بروتوكولي، بل جاءت كمؤشر على إمكانية التغيير في بلد عانى لعقود من الانغلاق السياسي وقمع الأصوات المعارضة، ومع ذلك، لا يمكن تجاهل أن هذه الخطوة، رغم أهميتها، كشفت عن العديد من التحديات التنظيمية والسياسية التي تجعلنا نتساءل: هل كان هذا المؤتمر مجرد محاولة لإضفاء الشرعية على مرحلة انتقالية، أم أنه بداية فعلية لمسيرة إصلاحية حقيقية تترجم إلى واقع ملموس؟
إن مجرد انعقاد المؤتمر في قصر الشعب، بحضور ممثلين عن مختلف فئات المجتمع، هو بحد ذاته تطور غير مسبوق في المشهد السياسي السوري، أن يجلس رجال دين إلى جانب نخب علمية وشباب ونساء، وأن تتاح لهم الفرصة للتعبير عن آرائهم في مكان كان يُنظر إليه سابقًا على أنه رمز للسلطة المطلقة، يشكل خطوة نحو إعادة تعريف مفهوم المشاركة السياسية، لكن الرمزية وحدها لا تكفي، بل يجب أن تكون مدعومة بإجراءات واضحة تضمن أن الحوار ليس مجرد لقاء استعراضي، بل عملية حقيقية تهدف إلى إيجاد حلول للأزمات المتراكمة التي يعاني منها السوريون.
منذ اللحظات الأولى للمؤتمر، بدا واضحًا أن هناك ارتباكًا في التنظيم وتفاوتًا في مستوى الخطابات، بعض المتحدثين بدوا غير مستعدين لمواجهة جمهور متنوع يحمل رؤى متباينة، بل ومتناقضة أحيانًا، الارتجال، والتكرار، وتجنب القضايا الحساسة كانت سمات بعض المداخلات، وهو ما يعكس عدم وضوح الرؤية لدى كثير من المشاركين حول ماهية الدور الذي يفترض أن يلعبوه في هذه المرحلة، قد يكون ذلك ناتجًا عن عقود من غياب التجربة الديمقراطية الحقيقية، لكن في الوقت نفسه، فإن هذا النوع من العثرات يسلط الضوء على الحاجة إلى إدارة أكثر احترافية لهذا النوع من الفعاليات، بحيث يتم تأطير النقاشات ضمن محاور واضحة ومحددة، مع توفير آليات لضمان تحقيق مخرجات فعلية يمكن البناء عليها.
ورغم الأجواء الإيجابية التي حاولت التصريحات الرسمية تصويرها، إلا أن غياب بعض القضايا الجوهرية عن النقاش أثار تساؤلات مشروعة حول جدية المؤتمر في معالجة الجروح العميقة التي يعاني منها السوريون. على رأس هذه القضايا يأتي ملف المعتقلين والمغيبين قسرًا، وهو أحد أكثر الملفات حساسية وتأثيرًا في وجدان السوريين، كيف يمكن الحديث عن مصالحة وطنية دون طرح هذا الملف بشفافية؟ كيف يمكن بناء ثقة بين الأطراف المتحاورة دون تقديم إجابات واضحة لآلاف العائلات التي لا تزال تبحث عن مصير أحبائها؟ هذا التجاهل، سواء كان مقصودًا أم لا، يعكس إشكالية جوهرية في مسار الحوار، إذ لا يمكن لأي عملية سياسية أن تنجح إذا لم تأخذ بعين الاعتبار المطالب العادلة التي تمثل جوهر معاناة الناس.
إلى جانب ملف المعتقلين، برز غياب رؤية واضحة للخطة الاقتصادية لإنقاذ البلاد من أزمتها الخانقة، سوريا اليوم ليست فقط في حالة اضطراب سياسي، بل إنها تمر بواحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخها الحديث، البطالة، تدهور العملة، تراجع مستوى المعيشة، وغياب الاستثمارات، كلها تحديات ملحة تتطلب خططًا جريئة للخروج من المأزق، لم يكن هناك وضوح حول كيفية إعادة إعمار المناطق المتضررة، ولا عن مصير المخيمات التي تحولت إلى مدن بائسة على هامش الجغرافيا السورية، هذه القضايا ليست ثانوية، بل هي في صميم أي عملية إصلاحية حقيقية، وتجاهلها يعكس إما غياب الإرادة السياسية لحلها، أو عدم القدرة على تقديم حلول عملية في هذه المرحلة.
ورغم هذه الإخفاقات، لا يمكن إنكار أن مجرد انعقاد المؤتمر يمثل خطوة إلى الأمام، أن يكون هناك نقاش، اختلاف في الآراء، ومساحة، وإن كانت غير مكتملة بعد، للحوار، هو بحد ذاته تغيير لا يمكن التقليل من أهميته، التغيير بطبيعته عملية معقدة وبطيئة، وهو لا يحدث بين ليلة وضحاها، خاصة في بلد خرج من أزمة عميقة هزت كل جوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لكن ما حدث في المؤتمر يجب أن يكون نقطة انطلاق لا محطة توقف، إذا كان الهدف فعلاً هو بناء سوريا جديدة، فإن القيادة الانتقالية بحاجة إلى أن تثبت جديتها من خلال خطوات ملموسة، مثل ضمان استمرار هذا الحوار ليشمل الفئات التي لم يكن لها صوت في هذا المؤتمر (السوريون في الخارج)، وتقديم إجابات واضحة عن الأسئلة التي لا تزال عالقة.
هناك من يرى أن المؤتمر، رغم كل ما قيل عنه، لم يكن سوى خطوة شكلية تهدف إلى إضفاء شرعية على مرحلة انتقالية لم تتحدد ملامحها بعد، وهناك من يعتبره بداية يمكن البناء عليها إذا تم التعامل معها بجدية، في كل الأحوال، ما حدث في قصر الشعب لا يمكن تجاهله، لكنه أيضًا لا يمكن اعتباره إنجازًا كافيًا ما لم يُترجم إلى سياسات فعلية وإجراءات حقيقية تعكس تطلعات السوريين في مستقبل أكثر عدالة ومشاركة.
سوريا اليوم ليست سوريا الأمس. المشهد تغير، والمطالب أصبحت أكثر وضوحًا، والخطوة الأولى قد وُضعت، رغم العثرات، لكن السؤال الحقيقي الذي سيحدد مسار المستقبل هو: هل سيتم البناء على هذه اللحظة، أم ستظل مجرد حدث رمزي يُضاف إلى قائمة اللقاءات التي لم تترك أثرًا؟ الأمل لا يزال ممكنًا، لكن وحدها الأفعال هي التي ستحدد إن كان هذا المؤتمر بداية تحول حقيقي، أم مجرد فرصة أخرى ضاعت في متاهات السياسة والمصالح.