كيف تكلَّم آدم؟ وكيف تكلَّم زُرادشت؟
مهنَّا بلال الرَّشيد
يعتقد أصحاب النَّظريَّة الدِّينيَّة أنَّ القدرة على التَّكلُّم بأصوات واحدة من اللُّغات البشريَّة أبرز صفة من صفات الإنسان الأوَّل أو أقدم خصِّيصة من خصائص آدم-عليه السَّلام- أبي البشر منذ خلقه الأوَّل؛ فقد علَّمه الله -سبحانه وتعالى-بلغة من اللُّغات أسماء الأشياء كلِّها، ثمَّ عرض هذه الأشياء على الملائكة؛ ليخبروه عن أسمائها؛ فلم يعرفوا شيئًا منها؛ لأنَّ الله -سبحانه وتعالى- خصَّ آدم بتعلُّم اللُّغة؛ ولذلك يُعرِّف بعض العلماء الإنسان؛ فيقولون: إنَّه حيوانٌ ناطق أو كائن لغويٌّ، ويرون أنَّ اللُّغة أهمُّ صفة تميِّز الإنسان من باقي المخلوقات، لا سيَّما تلك الطُّيور والحيوانات من ذوات اللُّغة العالية مقارنة بما دونها من المخلوقات الأخرى؛ كالقرود والدَّلافين والببَّغاوات وغيرها، ثمَّ يتشتَّت شملُ أصحاب النَّظريَّة الدِّينيَّة في خلق الإنسان واكتساب اللُّغة إلى مذاهب تقوم على مرجعيَّات دينيَّة أو قوميَّة متعدِّدة؛ فيقول العلماء العرب والمسلمون: إنَّ لغة آدم كانت لغة عربيَّة، وكذلك ستكون لغة أهل الجنَّة، ويستندون في ذلك إلى جملة من النُّصوص الدِّينيَّة المقدَّسة في القرآن الكريم والحديث النَّبويِّ الشَّريف، ويرى علماء اليهود أنَّ لغة آدم لغة عبريَّة، ويرى السِّريان أنَّ لغة الإنسان الأوَّل هي السِّريانيَّة، ويرجِّح الكُرد أن لغة آدم لغة كرديَّة، ويميل كلُّ رأي دينيٍّ إلى أنَّ لغة الإنسان الأوَّل تتطابق مع لغة العالِم المتحدِّث، وتنسجم مع قوميَّته ودينه أيضًا؛ وهكذا صار آدم -عليه السَّلام- عربيّاً عند العرب، وعِبريّاً عند اليهود، وسريانيّاً أو كرديّاً أو سُلافيّاً…، والحقُّ أنَّ جميع هذه الآراء تستند إلى أدلَّة نَقليَّة دينيَّة، وتفتقد إلى الرَّأي العلميِّ الدَّقيق، وإن استند بعض المؤرِّخين الدِّينيِّين وأصحاب النَّظريَّات العرقيَّة أو القوميَّة إلى نظريَّة الجمع على التَّواريخ في التَّفسير الدِّينيِّ لخلق الإنسان واكتساب اللُّغات، فإنَّ نتيجتهم النِّهائيَّة لا تنسجم مع مع ما يقوله العلم حول عمر الإنسان الطَّويل على سطح المعمورة؛ حيث جمع أصحاب النَّظريَّة الدِّينيَّة أعمار الأنبياء المذكورين في الكتب المقدَّسة، وحسبوا المراحل الزَّمنيَّة الفاصلة بين كلِّ نبيٍّ وآخر؛ فبدا لهم أنَّ عُمْرَ آدم -عليه السَّلام- على الأرض لا يتجاوز خمسة آلاف سنة، ولو اتَّسعنا في ذلك غاية الاتِّساع، وأضفنا هوامش زمنيَّة طويلة بين كلِّ نبيٍّ وآخر، فلن يكون عُمرَ آدم على الأرض أكثر ثمانية آلاف سنة من وقتنا الرَّاهن؛ لذلك لا تصمد أمام النَّقد آراء القائلين بوجود لغة أمٍّ قديمة تفرَّعت عنها لغات البشر جميعهم؛ فالخلاف الكبير جدًّا بين خصائص اللُّغات السُّلافيَّة والسَّاميَّة والطُّورانيَّة والصِّينيَّة في التَّسمية والتَّصريف والتَّركيب وبناء الجملة، يدلُّ على نشوء هذه اللُّغات في سياقات زمانيَّة ومكانيَّة متباعدة أكثر من دلالته على تطوُّرها عن لغة أمٍّ قديمة.
كيف تكلَّم آدم….وكيف تكلَّم زرادشت؟
تحدَّثنا عن ظهور أكثر من نوع بشريٍّ -بأمر الله سبحانه وتعالى- في جزُر وسياقات زمانيَّة ومكانيَّة متباعدة على سطح الأرض، ووجدنا أنَّ البشر هاجروا جزرهم الأصليَّة بحثًا عن الماء والغذاء، وعندما التقوا ببشر آخرين اقتتلوا معهم؛ فمات من مات، وتعارف الباقون، وعندما تزاوج بشرٌ مخلوقون من أصول متباعدة أو من طين الجُزر المتباعدة؛ حدثت طفرة وراثيَّة عظمى عند الأبناء، وتميَّزوا من آبائهم بمستوى عالٍ من اللُّغة والذَّكاء والجمال؛ وعُرِف مركز هذا الذَّكاء في أدمغة الجيل الجديد باسم منطقة (بروكا)، والحقُّ لم يقتصر تعارف البشر على تعارف واحد، بل تعدَّدت لقاءات البشر نتيجة هجراتهم المتلاحقة، وكلَّما تعارف جيل مع جيل أنجبوا جيلاً جديداً في منطقة جديدة من الأرض، وصار لهذا الجيل الجديد لغته وثقافته، وأسهمت أجيال (الهومو سابينيز) الجديدة في انقراض الأجيال القديمة من البشر؛ كإنسان النِّياندرتال وإنسان الهومو إيريكتوس؛ وهذا ما يُفسِّر اختلاف خصائص إنسان جاوا ولغته في إيندونيسيا -على سبيل المثال- عن خصائص إنسان أفريقيا ولغته من حيث الشَّكل واللَّون وطبيعة اللُّغة، وإرجاعُ هذه الاختلافات (اللُّغويَّة والجسديَّة) إلى أصول طينيَّة مختلفة أكثر إقناعاً من إرجاعها إلى تطوُّر بسبب الهجرة برغم الأصول المشتركة؛ فالأصل هو وجود البشر في جزر متباعدة، ثمَّ هاجر بعضهم وتعارفوا إلى بعضهم الآخر نتيجة الهجرات، وليس الأصل وجودهم في مكان واحد؛ وقد كانت قبائل الأقزام في غابات أفريقيا الاستوائيَّة آخر بشر معزولين عثرنا عليهم بعد الهنود الحمر، الَّذين وصلنا إليهم في العالم الجديد (أمريكا الجنوبيَّة وأمريكا الشِّماليَّة) بعد اكتشافه من قبل كريستوف كولومبوس، وقد حافظت هذه الأقوام المعزولة على لغاتها الأمِّ وخصائصها الوراثيَّة نتيجة لانعزالها واقتصار تزاوُجها على أفراد من أقربائها الَّذين تجمعهم بهم أصول مشتركة؛ ولهذا كانت مناعة الهنود الحمر منخفضة جدًاً أمام مرض الجدريِّ، الَّذي نقله إليهم كريستوف كولومبوس وبحَّارته حين غزوا الأمريكيَّتين.
تطوَّر الدِّماغ البشريُّ بطفرة وراثيَّة نتيجة التَّعارفات أو التَّزاوجات المتلاحقة بين أقوام من طين متباعد، وتكلَّم (آدم-الهومو سابينيز) قبل (35000) ألف سنة نتيجة تطوُّر منطقة بروكا في أدمغة الأجيال الجديدة، ثمَّ قضت الأجيال الجديد على آبائها وأجدادها، ولم تتمتَّع الأجيال القديمة والجديدة معًا بشيء من اكتشافات عصرنا واختراعاته إلَّا بنور الشَّمس ودفء النَّار والماء والتُّراب والهواء (الاسطقسات الأربعة)؛ ولأنَّ الإنسان كائن متناقض (وَدُودٌ وأنانيٌّ) في وقت واحد كانت الشَّمس والاستقطسات الأربع أقدم معبوداته اعترافاً منه بفضلها عليه أو على استمرار حياته، فقد شكَرَ الإنسانُ دفءَ الشَّمس والنَّار، ثمَّ عبدهما، وصنع الأصنام من التُّراب والماء، وجفَّفها بالنَّار والهواء؛ ثمَّ عبد أصنامه، وحاكى أو قلَّد ظلَّه خلف النَّار على جدار كهفه القديم، فرسم برماد النَّار صورة ظلِّه على جدار الكهف؛ فكانت نظريَّتا المُثل الأفلاطونيَّة والمحاكاة الأرسطيَّة أقدم نظريَّتين تفسِّران نشوء الفنون وارتقائها، ثمَّ نحتَ البشرُ على أبواب كهوفهم بعض التَّماثيل ومجسَّمات الحيوانات القويَّة والمفترسة؛ كالثِّيران والأُسود والعقارب والأفاعي؛ لتخشى منها الحيوانات الأخرى إذا أرادت اقتحام كهف الإنسان القديم، مثلما يخشى أيُّ حيوان عندما يرى صورتَه فجأة في مرآة أو على شاشة التِّلفاز، وبهذه الطَّريقة أسهمت المنحوتات القديمة على أبواب الكهوف والمعابد في حماية البشر القدماء من مخاطر الحيوانات المفترسة والأرواح الشِّرِّيرة؛ ولهذا أيضًا كانت الأسود والعقارب والأفاعي والصُّقور والثّيران المجنَّحة والحيوانات الأسطوريَّة أكثر منحوتات الأمم القديمة، ونظراً لدور هذه المنحوتات في حماية البشر في كهوفهم وبيوتهم ومستوطناتهم الأولى شعرت الأجيال الجديدة بكثير من الامتنان لهذه الأسود والثِّيران والأفاعي؛ فنحتت صوَرَها على شكلِ تمائم وتعاويذ وقلائد؛ لتحميها من الشُّرور كلِّها، وتحوَّلت هذه المنحوتات مع مرور الزَّمن إلى أصنام وآلهة معبودة في كثير من الحضارات القديمة.
طلاسم وابتهالات ولغات دينيَّة مقدَّسة:
احتاج الإنسان في كهوفه وبيوته القديمة إلى جداريَّات كبيرة ومساحات واسعة للتَّعبير عن بعض مشاعره البسيطة كالامتنان والفرح والسُّرور وغيرها؛ فرسم بعض رقصاته على جدران الكهوف، ونحتَ صور الحيوانات المفترسة؛ ليحمي نفسه برهبَتِها، ثمَّ احتاج إلى أن يعبِّر عن بعض من المعاني المجرَّدة ومشاعر الفرح والسُّرور؛ فاخترع الرُّموز للتَّعبير عن بعض هذه الحالات الذِّهنيَّة أو التَّجريديَّة كما في صورة العين، الَّتي تذرف دمعها وكثير من رموز الهيروغليفيَّة؛ لغة الفراعنة القدماء؛ فصارت كتابة البشر مزيجًا من الصُّور والرُّموز، ومن أجل الاحتفاظ بأكبر قدر من المعاني والدِّلالات واللَّحظات السَّعيدة حوَّل البشر معظم الصُّور إلى رموز وأيقونات رسموها على جدران الكهوف، وحوَّلوا بعض الأيقونات إلى رموز مسماريَّة كتبوها بالحروف المسماريَّة الرَّمزيَّة الخالصة في كلٍّ من اللُّغة الأكديَّة في العراق ولغة إيبلا السَّاميَّة الشِّماليَّة الغربيَّة في إدلب شمال سوريا، ثمَّ ازداد التَّعارف بين البشر ونشطت حركة التِّجارة وارتفع عدد الكلمات والنُّصوص، الَّتي يحتاج البشر إلى حفظها وتداولِها للتَّواصل والتَّعارف مع ضيق مساحات التَّخزين وصعوبة نقل الألواح الكبيرة؛ ولأنَّ الحاجة أمَّ الاختراع طوَّر أحفاد الإيبلاويِّين من الأوجاريتيِّين لغة أجدادهم الإيبلاويِّين إلى أقدم أبجديَّة في العالم؛ فرفعوا بذلك كفاءة ألواح الطِّين، وزادوا قدرتها على استيعاب كثير من الدَّلالات الرَّمزيَّة بحروف أبجديَّة تدلُّ على الأشياء دون أن تتشابه معها، فلم يعد كُتَّاب أوجاريت بحاجة لرسم رأس (إبِّيت ليم) ملك إيبلا على الشِّيكل الإيبلاويِّ للدَّلالة عليه، وصار بإمكانهم أن يكتبوا اسم هذا الملك بحروف صغيرة، ويوفِّروا جزءاً من مساحة التَّخزين لكتابة أشياء مهمَّة أخرى.
كتب الإيبلاويُّون والبابليُّون والمصريُّون نصوصهم وعلومهم المهمَّة على ألواح الطِّين، وزاد الأوجاريتيُّون كفاءة ألواح الطِّين، وجعلوها قادرة على تخزين معلومات كثيرة في مساحات صغيرة؛ فكتبوا أغاني أجدادهم وأناشيدهم وابتهالاتهم الدِّينيَّة لبعل وعشتار، ودوَّنوا أقدم معزوفة موسيقيَّة في العالم، وكتبوا أبجديَّتهم دون تنقيط، وأخذ عنهم الآراميُّون والعبرانيُّون هذه الأبجديَّة حين دوَّنوا عهدهم القديم، وطوَّر السِّريان شكل هذه الأبجديَّة حين كتبوا أناجيل العهد الجديد، وكان مصحف عثمان بن عفَّان -رضي الله عنه- دون نقاط أو حركات، ثمَّ أعجم هذه الحروف بالحركات والنُّقاط كلٌّ من أبي الأسود الدُّؤليِّ ونصر بن عاصم اللَّيثيِّ، ومع هذا ظلَّت مورِّثات الإنسان تنظر إلى نصوص الأجداد القديمة وحروفهم المهملة دون نقاط أو حركات بنوع مع القداسة؛ تلك الحروف والنُّصوص الَّتي ردَّدوها معهم في الحقول وطقوس الاستسقاء؛ في المعابد والكنائس والمساجد وطقوس الابتهالات الدِّينيَّة؛ ولمثل هذا السَّبب ما زال بعض السَّحرة وأصحاب التَّمائم والتَّعاويذ يكتبون طلاسمهم دون إعجام أو تنقيط، ولأنَّ تاريخ الشَّرق القديم حافل بهذا التُّراث العريق؛ حافل بكثير من الأساطير والملاحم وقصص الخلق والطُّوفان والنُّصوص والابتهالات الدِّينيَّة المقدَّسة في شرائع بابل وإيبلا ومصر الفرعونيَّة وفي كتب الشَّرق القديم ودياناته الحنفيَّة الإبراهيميَّة واليهوديَّة والزّرادشتيَّة والبوذيَّة والمسيحيَّة والإسلام؛ لهذا كلِّه ولغنى الشَّرق القديم بقصص النُّبوَّة والأنبياء مقابل فَقْرَ أوروبَّا الكبير بمثل هذا الجانب الرُّوحيِّ من التُّراث الدِّينيِّ حاول نيتشه بوصفه واحدًا من أعظم فلاسفة أوروبَّا في أواخر القرن التَّاسع عشر وبدايات القرن العشرين أن يمنح اسمَ واحدٍ من أجمل كتبه بعضًا من قداسة هذا الشَّرق؛ فأطلق على كتابة الرَّائع اسماً جميلاً؛ مثل: (هكذا تكلَّم زرادشت)؛ وإن تعرَّفنا في هذا المقال (كيف تكلَّم آدم) و(كيف تكلَّم زرادشت) ولماذا قلَّد البشر الطَّبيعة؛ فرسموا ونحتوا وكتبوا وأنشدوا وابتهلوا فإنَّنا سوف نتعرَّف في المقالات القادمة إلى بعض من الاختراعات والاكتشافات البشريَّة الأخرى، الَّتي أسهمت في تغيير العالم منذ تَعارف البشر وتطوُّر اللُّغة حتَّى تدجين القمح وظهور القرى الزِّراعيَّة الأولى في الثَّورة النِّيوليثيَّة ضمن هذا الشرق العريق.