التاريخ السوري

خيوط الأسد المقطوعة: كيف دمرّت الثورة السورية شبكة حافظ الأسد العالمية؟

عندما تم توريث بشار الأسد السلطة، كان الاعتقاد السائد أن الشبكة التي نسجها والده لا يمكن أن تنهار

محمود عارف – العربي القديم

عندما دخلت سوريا سبعينات القرن الماضي، كان حافظ الأسد يضع اللمسات الأخيرة على انقلابه، بعد أن استولى على السلطة ليرسي حكمه لاحقًا عبر القمع الدموي واستخدام القوة العسكرية بلا رحمة والتنكيل بأي صوت معارض، حيث قتل وأخفى قسريًا ما يقارب 2% من سكان سوريا خلال فترة حكمه. كل هذا مهّد له ترسيخ حكم الفرد الواحد، فأطبق قبضته الحديدية على البلاد، وأغلق أبواب الحريات، وسجن الشعب بأكمله خلف جدران عالية من الخوف.

القوة العسكرية التي استخدمها في القمع الداخلي كانت ورقة اعتماده من الغرب، حيث أثبت أنه قادر على الحفاظ على الاستقرار في المنطقة، وهو ما كان ضروريًا في سياق الصراع العربي الإسرائيلي والحرب الباردة. وهذا ما أعطاه القدرة على النمو والمناورة بين الأقطاب الدولية لاحقًا، وهو ما كان في أشد الحاجة إليه لضمان استمرار بقائه؛ لأنه اغتصب السلطة اغتصابًا. استطاع لاحقًا بناء نظام سياسي محكم ونسج خيوطه في شبكة النظام العالمي، وربطه بالتوازنات الدولية، فكان يوظف التحالفات الدولية والملفات الإقليمية مثل الصراع العربي الإسرائيلي، وملف لبنان، والعلاقة مع إيران وروسيا، ليستمد شرعية وجوده منها.

 كيف نسج حافظ الأسد نظامه في شبكة تحالفات دولية لحماية حكمه؟

  1. التوازن بين الشرق والغرب

استثمر حافظ الأسد في التنافس الذي كان قائماً بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، متبعاً سياسة براغماتية، فحصل على دعم ضخم من موسكو عسكرياً واقتصادياً، كانت ذروته في حرب تشرين، مع الحفاظ على خطوط التفاوض مفتوحة مع واشنطن، والتي أفضت إلى مشاركة سوريا في مؤتمر مدريد للسلام بداية التسعينات. كان الأسد يلعب على ورقة الصراع العربي الإسرائيلي، مسوّقًا لنفسه كجبهة للمقاومة والممانعة، في الوقت الذي كانت فيه قنوات الاتصال مفتوحة بشكل شديد السرية مع تل أبيب.

2. استخدام لبنان كأداة تفاوضية

بعد دخول الجيش السوري إلى لبنان في منتصف السبعينات واستحواذه على السلطة السياسية والأمنية، تحولت لبنان إلى ورقة سياسية رابحة بيد النظام السوري، مكنته من الضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل، الأمر الذي حوله إلى لاعب أساسي في المنطقة وثبّت موقعه.

3. التحالف مع إيران

إثر ثورة الخميني في نهاية السبعينات، انتقلت إيران من نظام ملكي مدعوم من الولايات المتحدة إلى نظام ديني يقوم على ولاية الفقيه. أقام حافظ الأسد تحالفًا استراتيجيًا مع طهران، كان هدفه أن يوازن النفوذ الإقليمي لكل من العراق وإسرائيل. وهذا التحالف استمر لاحقًا بعد توريثه الحكم لبشار الأسد، ليكون أحد أهم أدوات النظام للبقاء بعد الثورة السورية.

4. احتكار الورقة الكردية والفلسطينية

استضاف حافظ الأسد عبد الله أوجلان حتى نهاية التسعينات، واستخدم الحركات الكردية كورقة ضغط ضد تركيا، مما مكنه من التأثير في سياسات أنقرة. كما احتكر تمثيل القضية الفلسطينية عبر دعمه لفصائل معارضة لمنظمة التحرير مثل الجبهة الشعبية والقيادة العامة، لتعزيز نفوذه داخل المشهد الفلسطيني، مما منحه نفوذًا في الصراع العربي الإسرائيلي استخدمه في تعزيز أوراقه التفاوضية.

عندما تم توريث بشار الأسد السلطة، كان الاعتقاد السائد أن الشبكة التي نسجها والده لا يمكن أن تنهار، وهذا ما كان بعيدًا كل البعد عن الواقع الذي بدأ ينبئ برياح التغيير. ومع اندلاع الثورة السورية، تمسّك بشار الأسد بسياسة متصلبة، متمترسًا خلف آراء ومواقف دائرة ضيقة من المقربين ورؤساء أجهزته الأمنية، وهذا ما عزز لاحقًا عزلته السياسية وأفقده التفاعل مع القوى الخارجية. لم يكن النظام يدرك أن خيوطه ستبدأ بالتقطع وأن شبكة علاقاته وتوازناته ستتفكك شيئًا فشيئًا. فقد بدأ السوريون بالتحوّل من مجرد متظاهرين في الشوارع إلى فاعلين سياسيين وعسكريين يشهدون على انهيار نظام الأسد في محيطه الدولي على مدى أربعة عشر عامًا.

كيف دمرّت الثورة شبكة نظام الأسد العالمية؟

  1. انهيار الشرعية وبداية العزلة السياسية (2011)

مع تزايد العنف والقمع الوحشي ضد المتظاهرين، بدأ النظام يفقد صورته التقليدية كضامن للاستقرار، وتعالت الأصوات الدولية متهمة إياه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وقطعت العديد من الدول العلاقات مع دمشق. أدى ذلك إلى عزله دبلوماسيًا من قبل معظم الدول الغربية والعربية، مما أفقده القدرة على التفاوض بالأدوات نفسها التي استخدمها سابقًا. لم يعد النظام قادرًا على فرض نفسه كوسيط في أي قضية إقليمية، لا في لبنان، ولا فلسطين، ولا حتى في النزاعات العربية. بل على العكس، أصبحت دمشق مركزًا لصراع دولي، بعد أن كانت لاعبًا فيه. استمرار المظاهرات وكشف جرائم النظام كان بمثابة ضربات قاتلة للنظام، مما كان يجبر المجتمع الدولي على اتخاذ موقف متشدد ضده. كما أن التوثيق المستمر للانتهاكات عبر الناشطين والمنظمات الحقوقية دفع للمطالبة بمحاكمات دولية بحق كبار مسؤولي النظام.

2. خسارة القدرة على المناورة بين الشرق والغرب (2013)

قبل الثورة، كان النظام السوري قادرًا على التأثير في التوازنات الدولية، مقدّمًا نفسه كحليف للغرب في ملف “مكافحة الإرهاب”، وفي الوقت ذاته كحليف قديم واستراتيجي لروسيا وإيران. لكن في العام الثاني من عمر الثورة، بدأ هذا التوازن بالانهيار، بعد أن فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية صارمة، وفرضوا حظر أسلحة، وجمدت أصول شخصيات بارزة في النظام، مما جعل الأسد أكثر اعتمادًا على الدعم الروسي والإيراني. في حين بدأت القوى الثورية تفرض واقعًا جديدًا على الأرض، حيث سيطرت على أكثر من 60% من الأراضي السورية، مما كشف للعالم ضعف النظام عسكريًا وأفقده أي قدرة على تقديم نفسه كقوة مستقرة يمكن التعامل معها دبلوماسيًا. لم يبقَ للأسد خيار سوى الارتماء الكامل في الحضن الروسي-الإيراني، حيث أدت انتصارات الفصائل الثورية وضرباتها المتكررة لقوات النظام إلى شل قدرته على المناورة السياسية، ما جعله تابعًا بشكل شبه كامل للقرار الروسي بعد أن كان حليفًا.

3. انهيار الهيمنة على لبنان (2013)

كان لبنان دائمًا ورقة ضغط في علاقات النظام الدولية، منفذًا اقتصاديًا وسياسيًا في أوقات الأزمات. لكن هذه الهيمنة بدأت تتآكل تدريجيًا، مع تزايد النفوذ الإيراني في لبنان عبر دعم حزب الله بشكل مباشر، مما أضعف قدرة النظام السوري على التأثير في القرار اللبناني كما كان في السابق. وبحلول 2013، بدأت شخصيات لبنانية بارزة، حتى من داخل المعسكر الحليف للأسد، تأخذ مسافة منه بسبب ضعفه. ولعب اللاجئون السوريون في لبنان دورًا محوريًا في هذا التغيير من خلال دعمهم للثورة وفضحهم للدور الذي لعبه حزب الله في قتل السوريين إلى جانب النظام. دفع ذلك بالرأي العام اللبناني إلى اتخاذ مواقف أكثر عدائية تجاه النظام.

4. خسارة ورقة الأكراد وتحولها إلى عامل ضغط (2014)

كانت القضية الكردية أداة النظام للمساومة مع تركيا والغرب، لكن بدأت هذه الورقة تفلت من يده، بعد ظهور “قسد” بدعم أمريكي، مدعية تمثيل الأكراد. ظهرت قسد كقوة عسكرية وسياسية بيد الولايات المتحدة في شمال شرق سوريا. لم يعد النظام قادرًا على استخدام القضية الكردية كورقة تفاوضية، بل أصبح في موقع ضعيف أمام الأكراد الذين باتوا يملكون علاقات مباشرة مع الولايات المتحدة والتحالف الدولي. ومع انشغال الثوار في معركتهم ضد النظام، استغلت قسد الفرصة للتمدد والسيطرة على مناطق جديدة، مما كان يزيد نفوذ واشنطن في سوريا ويضعف الأسد.

5. تحول النظام إلى تابع كامل لروسيا وإيران (2015-2017)

استمرار الفصائل الثورية في مقاومة الإبادة الممنهجة التي كان يمارسها النظام والميليشيات العراقية والإيرانية ضد السوريين، أجبر الأسد على طلب المزيد من الدعم الخارجي. وكان التدخل الروسي المباشر نقطة تحول حاسمة، حيث فقد الأسد استقلالية قراره العسكري والسياسي، ولم يعد النظام قادرًا على اتخاذ أي قرار استراتيجي دون الرجوع إلى موسكو أو طهران. ومع مرور الوقت، أصبح واضحًا أن سوريا تحولت إلى ساحة نفوذ روسي-إيراني، ولم يعد للنظام أي سيادة فعلية على قراره، مما حوله إلى مجرد أداة في يد القوى الخارجية.

6. تهميش النظام في القضايا الإقليمية الكبرى (2017-2020)

الرفض الشعبي من قبل السوريين في الداخل والخارج للمصالحة مع النظام، أفشل أي محاولة لإعادته إلى المشهد العربي والدولي. لم يعد أحد يأخذ النظام السوري على محمل الجد كلاعب سياسي، بل بات يُنظر إليه كـ”ورقة مساومة” بيد روسيا وإيران. دول عربية مثل الإمارات والسعودية حاولت إعادة تقييم علاقاتها مع دمشق، لكن ليس من منطلق قوة النظام، بل كمحاولة لاحتواء النفوذ الإيراني في المنطقة.

الثــــــــورة مســــتمـــرة والنظام في مفترق طرق (2020_2024)

بعد مرور ما يقارب عقد ونصف على الثورة، بقي النظام السوري في حالة ضعف شديد. تفككت حاضنته الشعبية في الداخل والخارج، واستنفذ غالبية موارده البشرية عبر التجنيد الإجباري، وبدأ يفقد ولاء قادة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية بسبب اختراقه من قبل حلفائه، والتنافس بين أفرعه المختلفة تحت تأثير روسيا وإيران. الفساد المستشري وتحول البلد فعليًا إلى مصنع ضخم للمخدرات، والاستيلاء الإيراني والروسي على موارد البلد أفقده القدرة على التحكم بالوضع الاقتصادي، ففقد سلاحها مهما كان يسلطه على رقاب الشعب من خلال شبكة من رجال الأعمال التي تعمل عمل المافيا الاقتصادية. لم يستطع إعادة ترتيب أي من أوراقه، وأصبح وجوده مرتبطًا بالدعم الروسي والإيراني. فيما تستمر الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في تهديد بقائه. رغم كل محاولاته للالتفاف على العقوبات الدولية واستعادة شرعيته، إلا أن السوريين، من خلال استمرارهم في الضغط من داخل البلاد وخارجها، يمنعونه من تحقيق ذلك. لم يعد السؤال هو ما إذا كان النظام سينهار، بل متى وكيف ستكون نهايته.

ما بدأ كحركة رفضٍ صغيرة ضد الظلم، سرعان ما تحول إلى ثورة عظيمة غيرت معالم سوريا والعالم. انهارت شبكة نفوذ النظام السياسية الإقليمية والدولية، ولم يعد يمتلك هامش المناورة الذي كان يمتلكه في الماضي، بل تحول إلى لاعب ضعيف في معادلة دولية أكبر منه. لم يعد له أي قيمة في التحالفات والولاءات والتوازنات. ليلة التحرير كانت لحظة سياسية حتمية حين انقطعت آخر خيوط النظام. هذه اللحظة هي ثمرة جهد جماعي دام 14 عامًا، بدأه الثوار الأوائل الذين كسروا جدران الخوف، ودفع ثمنه الشهداء والمعتقلون من أرواحهم وأعمارهم فداءً لهذه القضية. واستمر هذا الجهد بفضل المحررين الذين سطروا ملاحم عظيمة صاغوها بتضحياتهم في معركة التحرير، وكذلك بفضل المهجرين واللاجئين الذين كانت مأساتهم محركًا إضافيًا لاستمرار الثورة. كل من حمل كلمة حق ورفعها في وجه الظلم، من صحفيين وناشطين، كل من قدموا الدعم ولو بكلمة في الداخل والخارج، جميعهم كانوا جزءاً من هذه الثورة. من الجبهة إلى الحافة، من المعتقلات إلى المنفى، من داخل الأراضي السورية إلى أبعد أصقاع الأرض، كان الحدث أكبر من مجرد سقوط نظام، بل احتراقًا كاملًا لبيت العنكبوت الذي بناه الأسد الأب، وورثه الابن بعده، وبداية لسوريا جديدة يحكم فيها الشعب نفسه بنفسه، لا مكان فيها للاستبداد، ولا حاجة إلى مناورات سياسية تُبقي السلطة في يد ضغمة حاكمة على حساب شعب بأكمله. إنها لحظة ولادة حقيقية، لحظة أثبت فيها السوريون أنهم قادرون على بناء وطنهم دون وصاية أحد. أثبتوا أن التاريخ لا يسير إلا في اتجاه واحد: نحو العدالة، نحو الحرية، نحو فجر جديد، نحو وطن جديد صنعه السوريون بدمائهم وتضحياتهم وصمودهم، وطن تُحترم فيه كرامة الإنسان وتُصان فيه الحقوق.

___________________________________

* كاتب وباحث سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى