تاريخ العالم

كاليغولا: الفلسفة المتجسدة في الجثث وتوحش الطغاة

كان يرى أن كل شيء يمكن أن يكون أداة للحكم، حتى أكثر الأشياء بساطة: الجنس، الضحك، وحتى الملل

محمد صبّاح * – العربي القديم

في إحدى نوبات جنونه، انفجر الإمبراطور الروماني كاليغولا ضاحكاً، مما أثار حيرة القناصل وأعضاء مجلس الشيوخ من حوله؛ وحين سأله اثنان من شيوخ المجلس عن سبب ضحكه، أجابه بكل برود :

“الأمر بسيط، أضحك لفكرة أنني، بإيماءة واحدة من رأسي، أستطيع أن أرى رأسيكما يتدحرجان أمامي على الفور.”

كان هذا الضحك هو الصدى المجسد لعدمية متوحشة، فلسفة لا تعترف بأي قيمة سوى القوة العارية، حيث يصبح كل شيء قابلًا للإلغاء بمجرد رغبة فرد واحد.

في مسرحيته التراجيدية كاليغولا، حاول ألبير كامو أن يرسم هذا الطريق المسدود، حيث تتجسد العدمية في طاغية يرفض كل منطق سوى منطقه الشخصي، ويرى في ذاته كائناً يتجاوز الخير والشر.

إنه لا يحكم، بل يعبث، لا يسعى لإقامة العدل، بل لإثبات أن العدل ذاته خدعة؛ يُجبر الزوج على أن يكون قواداً لزوجته، ويدفع الأب إلى السخرية من موت ابنه، ويفرض ما يسميه «تجربة تربوية» لكشف زيف العالم، مؤكداً أنه لا يوجد شيء أخلاقي أو لا أخلاقي، وأن جميع الأفعال الإنسانية «تحتل ذات المنزلة»؛ ليس ثائراً، بل ساخراً من كل محاولة للتمرد، إنه يضع العالم أمام مرآته المشوهة، ليثبت أن كل المبادئ ليست إلا وهماً هشاً يتهاوى أمام الجزع.

ورغم أن بعض النقاد رأوا في كاليغولا انعكاساً لأفكار كامو نفسه، إلا أن الأخير لم يكن يبرر عدميته المطلقة، بل كان يسعى إلى كشف زيف وهم الحرية المطلقة حين تنفصل عن أي مسؤولية أخلاقية، إنه تحذير لا تبرير، فالفوضى المطلقة ليست نقيض الاستبداد، بل امتداده الطبيعي.

لوحة تصور دهشة مجلس الشيوخ عندما عين كاليغولا حصانه قنصلا فخريا

السيادة كنفيٍ للوجود:

لم يكن كاليغولا مجرد طاغية تقليدي، بل كان تمزيقاً حيّاً لكل عقيدة تسعى لتقييد الإنسان بسلاسل الأخلاق والمبادئ، لم يكتفِ بأن يكون سيد روما، بل أراد أن يكون سيد الواقع، أن يطوّع الوجود ذاته لنزواته؛ لم تكن السلطة بالنسبة له أداة، بل غاية، غاية تنفي كل معنى، وتحيل كل شيء إلى عبث محض.

لقد كان الجنود يلقبونه في صغره بـ(حذاء المحارب)، رمزاً لطفولته بين المعسكرات.

لكن كيف لفتى صغير، مولع بالقتال، أن يتحول إلى أسطورة في الجبروت؟ كيف لمن أحبّه شعبه أول توليه العرش، لفرط عدالته وإنصافه للمظلومين، أن يصبح أكثر من مجرد ديكتاتور، بل نموذجاً للسلطة وقد تحررت من كل قيد؟ هل ولد طاغية، أم أن السلطة، كإلهٍ لا يرتوي إلا بالدم، امتصّت من روحه كل بقايا الإنسان؟

إنها ثورة في المفاهيم التي نامت عليها روما طويلًا، ثم صحت على رعب الحقيقة. فكما خانت روما يوليوس قيصر، وكما احترقت على يد نيرون، كان لا بد لها أن ترى كاليغولا، التجسيد الحيّ لما يمكن أن تصبح عليه السلطة حين تتحرر من أوهام المسؤولية.

الضحك كأداة للقتل:

كان كاليغولا يحاجج القانون ويتجاوزه، لا ليصلح بل ليثبت هشاشته، كان يرى أن كل شيء يمكن أن يكون أداة للحكم، حتى أكثر الأشياء بساطة: الجنس، الضحك، وحتى الملل. قال لسيّافه قبل تنفيذ الإعدام:

“اقتل ببطء.. دعه يتذوق طعم الموت جيداً ” .

ثم ينظر إلى عين القتيل قبل تنفيذ حكم الإعدام، ويتثاءب قائلاً بجدية:

“إن أكثر ما يُثير إعجابي هو اللامبالاة.”

لقد كانت سخريته أعظم سلاح، سخرية لا تقف عند حدود الكلمات، بل تمتد إلى الوجود نفسه، مارس العربدة السياسية، ليس تمرداً على الأخلاق، بل استهزاءً بفكرة الأخلاق ذاتها. حتى الجسد، هذا المعطى المادي البسيط، جعله وسيلة لإعادة تعريف القوة، ليثبت أن حتى الشهوة يمكنها أن تكون سلاحاً سياسياً، تماماً كما يمكن للضحك أن يكون شفرة قاتلة.

السقوط كضرورة سياسية:

لكن الحقيقة، مهما تم العبث بها، تظل تمتلك فكاكها الحادّ؛ لم يكن سقوط كاليغولا نتيجة ثورة شعب، فالشعوب جبانة بطبعها، تعبد سيدها ما دام قوياً، وتنهش جثته حين يترنح؛ لم يكن الذين قتلوه أبطالًا، بل كانوا امتداداً لمأساته؛ أحدهم، براكوس، وقف في مجلس الشيوخ، وصرخ:

“إلى متى يا أشراف روما نبقى عبيدًا لجنون كاليغولا؟”

لم تكن صرخة ثائر، بل كانت صرخة مرعوب، أدرك أن الوحش قد صار أكبر مما يحتمل.

ركل الحذاء في وجه حصانه المعبود، فكان ذلك هو الطقوس الأخيرة لسقوط الإله المصطنع. تجمع الأعضاء وأعوان كاليغولا عليه حتى قتلوه، ثم خرج الشعب يحطم تماثيله التي أجبرهم على عبادتها.

لكن روما لم تتحرر، لقد استبدلت كابوساً بكابوس، واستمرت في دورانها الأبدي حول وهم النظام، تحطمت تماثيل كاليغولا، لكن كاليغولا لم يُقتل، بل تبدّد في الهواء، ليعود بألف وجه، وألف جسد، لأن العالم لا يحتمل الفراغ، ولا يحتمل الحقيقة، إلا إن كانت تقطر دماً.

الفكرة التي لا تموت:

لقد كان كاليغولا هو الإنسان وقد تحرر من كل قيد، ليس ليصبح أكثر عدلًا، بل ليصبح أكثر اتساقاً مع جنونه؛ كان يدرك أنه سيُقتل، لكنه لم يهتم، فقد كان يعلم أن السلطة ليست شيئاً يُحكم به، بل شيئاً يُدمر به، لم يكن يريد حكم روما، بل إبادة كل أوهامها.

لكن، أيهما كان أكثر جنونًا؟ كاليغولا الذي واجه الحقيقة حتى آخرها، أم روما التي أنكرتها حتى لفظها؟ ربما لم يكن جنونه سوى انعكاس لحقيقة العالم، عالم لا تحكمه القوانين، بل تحكمه القوة، عالم يتغير أسياده، لكن تظل لعبته كما هي، لعبة يحكمها من يجرؤ على أن يضحك وهو يقتل

_________________

  • كاتب وباحث فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى