الرأي العام

قرداحة سوريا الجديدة

القرداحة استخدمت كرمز دعائي للسلطة. لكن خلف هذه الواجهة المصطنعة، تختبئ حقائق مأساوية

هبة عز الدين – العربي القديم

أجلس على أريكتي الكاروهات، و بجانبي شجرة عيد الميلاد التي انشغلت بسبب تحرر سوريا عن فكها، أمسك موبايلي، أتصفح الفيسبوك، و  يقفز في وجهي مقطع فيديو لشاب يقود سيارته على طريق متآكل، النوافذ مفتوحة، الهواء يعصف بشعره وهو يسأل المارة عن موقعه. “أين أنا؟” يهتف، والناس يردون دون تردد: “القرداحة!” يضحك، يرفع حاجبيه بسخرية، يهز رأسه، ثم يقول لهم “طز!” قبل أن يضغط على دواسة البنزين ويمضي.

لكنني لا أتحرك معه. أبقى في المشهد، أعيد اللقطات مرات ومرات. أحدق في الطريق المنهك، في البيوت المتناثرة كأنها استسلمت منذ زمن للفوضى، كأنها لم تُبنَ بل نبتت بلا تصميم، بلا هندسة، كأن الزمن ذاته لم يكترث لصياغة مكان لائق لها. بيوت أرهقها العمر، واجهات باهتة، نوافذ تئن، و أسطحة بيوت تبدو وكأنها تشرف على كل شيء بعيون مغمضة.

كان الشاب يضحك، يسخر من المكان، من اسمه، من كل ما يعنيه للقاطنين فيه “القرداحة؟ طز ” يقولها ويمضي، كأنها مجرد محطة عبور لا أكثر. لكنه لم يكن يدرك أن وراء الكلمة، وراء الضحكة، وراء الطريق المهترئ والبيوت المتعبة، هناك قصة أعمق، أقدم، قصة جنة ضاعت أو أُخذت، وتركت وراءها جرحاً مفتوحاً لا يلتئم.

لم يكن الفيديو مجرد لقطة عابرة لشاب يتباهى بجهله، بل كان صفعة غير مقصودة للذين كبروا وهم يسمعون عن القرداحة كأنها فردوس مفقود، مكان لا يمكن أن يكونوا جزءاً منه، مهما حاولوا. كبروا وهم يعرفون أن هناك أناساً وُلدوا في الجنة، وأناساً يعيشون خارجها، وأن الفرق بين الاثنين لم يكن بيد أحد، بل حُسم منذ الولادة. لم يكن اختياراً، بل قدَراً.

ثم تخيلت، ماذا لو كان هناك من يرى هذا الفيديو بطريقة أخرى؟ ماذا لو بدأ الناس يتقاتلون بسببه؟ لا لأن الشاب قال “طز”، بل لأنهم رأوا فيه ما لم يرَه هو. ربما كان الفيديو مجرد مزحة بالنسبة له، لكنه بالنسبة لهم، كان شرارة. أحدهم سيقول” :كيف يتجرأ على السخرية منا؟” وآخر سيرد: “دعوه، إنه مجرد ولد تافه ” لكن الفكرة ستكون قد زرعت. ستنتشر في الأحاديث، في الجلسات، في المقاهي الصغيرة حيث يجلس الرجال يتجادلون في كل شيء بلا نهاية.

وسرعان ما سينقسم الناس. سيخرج شاب من القرية بفيديو آخر، يرد عليه، يصور الطرقات من زاوية أجمل، يرفع صوته: “هذه أرضنا، هذا بيتنا، هذا تاريخنا، وإذا لم يعجبك، لا تمرّ من هنا” وستنهال التعليقات، ويتصاعد الجدال، ووسط كل ذلك سيأتي من يحوّل المسألة إلى شيء أكبر: “هذه ليست مجرد مزحة، هذه إهانة ” وسيتحول الأمر إلى معركة إلكترونية، ثم إلى شتائم في الشوارع، وربما، في ليلة متوترة، إلى مجزرة.

لم تمض دقائق على خيالي حتى حققه السوريون، و انهالت الشتائم و المنشورات و دلوت أنا بدولي أيضاً، فتعلق لي صديقة لم أسمع أي شيء عنها منذ عشرين سنة تقريباً، و لم انتبه أصلاً أننا صديقات عبر فيسبوك، يبدو أنها أرسلت لي طلب صداقة حديثاً و قبلته! لقد كانت تجلس بقربي في المدرسة الابتدائية في كفر يحمول، قريتي في ريف إدلب، كنا في الصف الثالث، ثم انتقل والدها للعمل في الخفسة لكونه مهندس كهرباء، و انقطعت أخبارها تماماً.

يالهذه اللحظة اللعينة التي أعادتني للصف الثالث، حينما كنت في الثامنة من عمري تقريباً و طلبت منا مدّرسة اللغة العربية كتابة موضوع تعبيري مختصر عن الجنة، فأتيت لأمي و طلبت منها مساعدتي. راحت أمي تحفز مخيلتي و تسألني عن تصوري عن الجنة، فقلت لها بكلمة واحدة ” القرداحة”! لم تغادر مخيلتي ملامح وجه أمي رداً على قولي، خائفة مرتبكة، لكنها ابتسمت بوجل ثم سألتني: “ليش ماما القرداحة هي الجنة؟” لم أكون قادرة على صياغة الإجابة وقتها لكنني أدرك الآن، أن تصوري عن الجنة حينها أتى من دروس التربية الدينية التي شكلت وعيي أن الجنة هي مكان للهرب من الخوف أو المكان الوحيد الذي يأوي غير الخائفين، و أيضاً ربما كان بسبب حديث صديقة أمي التي كانت مدرستها ثم أصبحت صديقتها و التي تنحدر من القرداحة و جاءت لتدرس في إدلب، ثم تزوجت و بقيت هناك في قطيعة طويلة مع أهلها. الخالة، كانت تتكلم عن القرداحة و كأنها قطعة من الجنة. طبيعتها الخلابة، أهلها الطيبون، و بأن القرى المجاورة تخاف من القرداحيين ظناً منهم أنهم آل بيت الأسد.  

كان تصور الجنة محفوفاً بالخوف في سوريا الأسد، و كانت الجنة الموعودة مكاناً تتسرب إليه الأحلام المحرمة، حيث يمكن للمرء أن يعيش بحرية لا تسمح بها الحياة الواقعية. هذا التصور لم يكن فردياً بل كان جزءاً من منظومة كاملة تتداخل فيها التربية الدينية مع الخطاب السياسي والإعلامي، لتنتج صورة مشوشة عن العالم الآخر، حيث تُرسم الجنة وفقاً لموازين السلطة والخوف والطاعة.

لا أذكر كيف غيرت أمي المخطط، وأقنعتي أن أكتب عن الجنة التي ينالها الأشخاص الذين يحبون الخير ومساعدة الآخرين ولا يكذبون أبداً. لكني أستحضر الآن بأني أعطيتها مثالاً بأني أشارك سندويشتي مع الفتيات بالمدرسة ولذلك سأذهب للجنة. في اليوم التالي حينما قرأت الموضوع قالت لي المدّرسة بأنه من غير الصحيح أن أجزم بالذهاب للجنة فهذا في علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله.

بقي ذاك التصور عن القرداحة في مخيلتي، ولم يعرض التلفزيون السوري أي مقابلة أو مسلسل أو فيلم عن القرداحة، فقط ضريح باسل الأسد ومن ثم حافظ الأسد وكانا يبدوان و كأن الشخصين أئمة أو رسل، ما عزز فكرة القرداحة/ الجنة في مخيلتي.

ثم في الجامعة كان لدي صديقات من الساحل، ولم يكنّ مؤيدات للأسد، بل إحداهن كانت من عائلة خير بيك، لم تترك مناسبة إلا و ذمته وسبت كل آل الوحش، أي آل الأسد، و كنا حقيقة نطلب منها أن تخرس، لأننا لا نريد أن نذهب لبيت خالتنا الذي قد نبقى فيه للأبد. وفي مرات عديدة عرضت لنا صوراً للقرداحة، كانت صادمة بالنسبة لي، فلا يمكن لتلك البيوت التي تقاوم ألا تنهار، والتي تبرز حجارها عارية دون إسمنت يكسيها، ووجوه الناس البائسة الذين يبدو أن الفقر نهش من بريق عيونهم و أجسادهم حتى تحول لغول يأكل القرية، لا يمكن أن تكون تلك الجنة!

أدركت مع الوقت، ومع تجربة الثورة التي أنضجت علاقتي مع سوريا ومع الدولة، بأن القرداحة استخدمت كرمز دعائي للسلطة. لكن خلف هذه الواجهة المصطنعة، تختبئ حقائق مأساوية تعكس كيف كانت تُدار الأمور داخل دائرة النظام السوري. لم تكن القرداحة كما أراد النظام أن يراها العالم، بل كانت مسرحاً لتناقضات صارخة بين الرواية الرسمية والواقع المعاش.

في الدعاية الرسمية، كانت القرداحة رمزاً للصلابة والقوة، منشأ العائلة التي حكمت سوريا لعقود، كانت الجنة! وتم تلميعها في الإعلام كقاعدة شعبية متماسكة تدعم النظام بلا شروط، وكأنها نموذج للولاء المطلق. لكن على أرض الواقع، عانت القرداحة من التهميش الاقتصادي والاجتماعي، ولم تُجنِ سوى الفتات من الامتيازات التي يفترض أن تنالها كمسقط رأس الأسد.

رغم ارتباط اسم القرداحة بأعلى هرم السلطة، إلا أن معظم سكانها لم يلمسوا شيئاً من فوائد هذه السلطة. عاشت القرية في حالة من الفقر المدقع، مع غياب شبه تام للتنمية والخدمات. وبينما كان النظام يراكم الثروات ويدير شبكة من الامتيازات الموزعة على نخبة صغيرة، بقيت القرداحة خارج معادلة التوزيع العادل للموارد، ما عمّق شعور سكانها بالإهمال والتجاهل.

ولم يكن هذا التهميش مجرد صدفة؛ بل يبدو وكأنه سياسة ممنهجة تهدف إلى إبقاء سكان القرداحة معتمدين بالكامل على النظام، مشغولين بتأمين احتياجاتهم الأساسية، وغير قادرين على التفكير بمعارضة أو نقد حقيقي. استخدم النظام أبناء القرداحة في الجيش والأجهزة الأمنية، حيث زُج بهم في الصراعات والحروب، لكن دون أي استثمار حقيقي في تحسين حياتهم أو توفير فرص حقيقية للتقدم.

أعلم أنني بكتابة هذا النص قد أتعرض للشتائم وربما الاتهامات بالخيانة أو التعاطف مع النظام، لكن الحقيقة أن القرداحة تعطينا مثالاً مثيراً لتأثير النظام السوري في تحويل الناس إلى رهائن في سياق سياسي واجتماعي قمعي. هذا التحول يبرز بشكل خاص فيما يمكن وصفه بمتلازمة ستوكهولم الجماعية، حيث تتماهى الضحية مع الجلاد تحت ضغط القمع والخوف والارتباط القسري. وقد  بنى النظام السوري حكمه على منظومة الخوف، حيث تصبح الطاعة ليست خياراً، بل مسألة حياة أو موت. الخوف المستمر من الاعتقال، الإقصاء، أو حتى الموت يجعل الناس يبحثون عن الأمان في أقرب صورة متاحة، حتى لو كانت هذه الصورة هي الجلاد نفسه. كما أن النظام حرص على إبقاء القرداحة معزولة عن باقي سوريا، ليس فقط جغرافياً، بل أيضًا نفسياً واجتماعياً. هذا خلق بيئة مغلقة تعزز من اعتماد السكان على النظام، وتجعل أي انتقاد أو محاولة لفك الارتباط تبدو وكأنها خيانة للمجتمع نفسه. و هذا النوع من الاحتواء يحول أي تمرد إلى خطر وجودي، مما يدفع الناس للتماهي مع الجلاد بدلاً من مواجهته. فضلاً عن إعطاء امتيازات محدودة لسكان القرداحة، مثل تفضيلهم في بعض الوظائف الحكومية أو الأدوار الأمنية، لكنه لم يمنحهم أدوات حقيقية للتقدم الاقتصادي والاجتماعي، ما خلق حالة من الامتنان القسري، حيث يرى الناس أن هذه الامتيازات البسيطة هي “نعمة”، وأن أي محاولة لمعارضة النظام قد تعني خسارتها.

تقفز من الشاشة رسالة صديقي سامر، يقول لي: “مو حابب أبداً طريقة تعاطيكي مع إدلب على أنها القرداحة الجديدة”!

فقلت بصوت مرتفع: سلام قولاً من رب رحيم!

كتبت له رسالة لم يرد عليها حتى اللحظة، أرسلت له كتابةً ما يدور في فكري قائلة:

“سامر الغالي، أقرأ ما سأكتبه هنا و عدني أن تغمض عينيك بين الفينة و الأخرى لتخيل المشهد. ربما تبدو القاف الثقيلة وسط القرداحة، خفيفة عليك لكن ألسنة الأدالبة التي تضم الألف و تكسر الياء تيمماً بالآراميين و السريانيين، قد يصعب عليها ذلك. لقد استطعنا يا أبا سمرة أن نسقط خيال الخوف عن القرداحة، وأن نفكر بها مجدداً كمدينة سورية لا تتبع لأحد، ولا يملكها سوى أهلها الطيبين. وحالما ترد علي، ربما بعد أسابيع،  أعدك بأني سأكتب لك عن إدلبتنا، هكذا كما نأنثها نحن الإدلبيات”؟

من ثم قررت أن أكتبه لكم أنتم أيضاً، علي أسمع من سامر ومنكم قريباً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى