
محمد المير إبراهيم – العربي القديم
صباحاً يصل ابنها الأوسط الذي فارقها عندما كان في السابعة عشر من العمر.
طردته كما الذئبة تطرد صغيرها الذي شبّ وانتصب ليواجه الحياة.
لم تكن ترى هذا اليوم حينَ ولدتهُ فجرَ يومٍ مثلج.
حينَ اختارت اسمه، صدقت كذبةَ الأبد، تواطأت مع قلبها الذي غرق في وهم الخلود، أن اللحظة لا تنتهي، بل تمتد على مقاس طول صبيها المولود حديثاً.
تلكَ الليلة عطَّرت الدار، من الباب حتى الفراغُ الذي يملئ فسحته السماوية.
لم يكن مُحمد مميزاً بين أخوته، فهي الأم التي توزّعُ قلبها بالتساوي على أبنائها وبناتها.
هو فقط الغياب.
كأنّها حملت به مجدداً دون أن تراه.
لكن هذه المرة حملاً شاذاً لا طبيعياً، حملاً امتد عشر سنوات.
قبّلت زوجها قبل أن ينام.
عادت شفتاها رطبتين كما كانتا في عمر العشرين.
جفت يداها قبل قلبها وهي تنتظر
فالغياب يشبهُ الموت
فجراً وقفت تتفقد باب البيت الخشبي العتيق.
تذكرت أثر أظافرها في جانب الباب حين ودعته مجبرةً.
حفرت عميقاً فيه من دون أن تشعر، فقط كي تخنق صرخاتها.. ابقى.
ابتسمت وهي تلحظُ أظافرها التي ذابت.
هي ابنةُ حي الكيلانية في حماة.
ذلك الحي الذي حاول هدمه حافظ الأسد، لكنه فشل.
بيوته متلاصقة، مرهفة، متلاحمة أكثر من المطلوب أحياناً، لكنها تمتلك روحاً قوية وحنونة.
كانت هِند قد أرسلت محمد مع أخيه الأكبر إلى أوربا.
فالإثنين كانا قد نشطا أثناء فترة الاحتجاجات التي عصفت بالبلاد أثناء حكم الأسد الابن.
ما زادها حُرقةً مجبولةً بالخوف، أن محمد ذهب إلى أوربا، من ثم عاد.
لم يستطع نزعَ البِلاد من بين يديه… من روحه
عاد إلى ما سُمي بالمناطق المحررة حينها.
عشرُ سنين خاض البحر وعاد، التحق بصفوف الثوار، خاضَ معاركَ طاحنة ضد قوات النظام الأسدي المجرم.
اليوم هو ورفاقه على تخومِ حماة.. أُم النواعير كما يحب أن يسميها أهلها.
هند كانت ممزقة، بين الله وجبين ولدها
ترابُ الأرض، وحبات المطر التي تناثرت بهدوء ذلك الصباح.
كأنها رأفت بها وحَنَتْ عليها.
احتارت.. هل تعدُّ القهوة؟ أم الشاي؟
إفطاراً جميلاً
حباتُ زيتون أخضر، لبنة (كُرات)، جبن، زعتر، مكدوس!!!
تذكرت أنه لطالما أحبَّ المكدوس!
مع عناقيد من العنب البلدي
لم تفهم لما أحب المكدوس مع العنب!
لكن غير مهم.
هل يستحم!؟ أم ينام؟
لقد صارَ رجلاً وأب.. لن أستطيع أن أجعله يغفوا في حجري.
حتى لو.. سيبقى طفلي ولو إجباراً.
لا بأس.. ابنه الصغير يكفيني.
قبل انقطاع الاتصالات آخرُ ما عَرِفته أنه على مشارف حماة.
هو ورفاقه يخوضون معاركة ضارية..
دخولهم.. مسألةُ وقت
نسيت تاريخ اليوم..
ولدها يحرر بلادها هذا المهم
في آخرِ الزُقاق الضيق، لمحت فتاةً تحملُ طفلاً، معها عددٌ من الرجال المسلحين.
حينها استعادت وعيها بما يجري من حولها.
أصوات الرصاص غطت على كل شيء.
الناس تدور من حولها.
زغاريدُ وصيحات تكبير، بكاءٌ على شكل صرخاتٍ.
لقد تحررت حماه وهي تنتظر.. حريتها
حبل المشيمة الذي تقطع
وعيني ولدها
هذا عليّ.. حفيدي
وهذا علمنا الأخضر الجميل
وهذه ضُحى زوجة محمد
هذه الكلمات انتزعتها في لمح البصر من كُل ما جال في خاطرها.
لم تفهم
عيني ضُحى الباكيتين حين ارتمت في أحضانها تشهق كحملٍ قضمه وحش.
عليّ يبكي أيضاً
رفعت رأسها لتسأل: أين!؟ أينَ مُحمّد؟
أجابتها ضحى: محمّد استشهد. استشهد على مشارف حمص.
حمص!؟؟ وأنا أبووه!!؟؟ حماة؟؟
ماذا عنا؟!!
لم تستطع كتم السؤال الذي اخترق جمجمتها كرصاصة.
أدخلوها إلى فسحة الدار المُعطرة، الملمّعة، النضرة
اقترب منها أمجد.. رفيق سلاحِ طفلها.
لم يقتنع ولم يقبل.. أن يدخل بيته ورفاقه قد تركوا ضيعهم وقُراهم، أهلهم وأحبتهم وكل ما حلموا به خلف ظهرهم وتابعوا طريقهم نحو المعركة.
قالها لي:
أتريد أن يقال أن أبا عليّ تركَ رفاقه يمضون في معركة التحرير كُرمى لحُضن أمه؟!؟!؟
لا والله..
تركنا نخوض آخر المعارك في أطراف حماه وانضم للرتل الذي مضى باتجاه حمص.
سقطت خَدِرة
سكينٌ قطع أحشائها.
دمعها يسيل دون صوت منها
خنقتها رائحة البخور وزهر الليمون والبابونج المغلي التي عبقت في المكان.
التفتت نحو زوجها،
لتراهُ يتمتم بكلمات الحمد وخدّه يرتجفُ إذ غطى تجاعيده الدمع من دون قدرةٍ على استيعاب ما يجري.
وقف أمجد. خطى نحوه بهدوء قاتل. فتحَ جيبَ سترته، أخرجَ نظارة محمد ووضعها في كفهِ دون أيّ كلمة.. وخرج هارباً
صرخت هند مزغردةً
مضت نحو باب البيت الخشبي
تحفرُ اسم ولدها عليه حتى سال الدم من أصابعها.
تداعى الناس وهند تزغرد، حتى غابت عن الوعي.
اليوم صار عليّ في التاسعة من العمر
كلّ صباح، في الطّريقِ إلى المدرسة
يراجعُ أبواب بيوت حي الكيلانية الخشبية، يخرجُ باكراً قليلاً.
ليحفظ كلَّ ما حُفِرَ عليها
لأناسٍ رحلوا،
حفرت أمهاتهم بأظافرها أسمائهم
رحلوا كرمى لعيون البِلاد.
ليكتب.. أنا عليّ محمد الكيلاني