الرأي العام

سوريا الجديدة وسط إعادة تدوير الأسماء القديمة

نفس الأسماء التي كانت جزءاً من فساد النظام، تظهر اليوم في المشهد الجديد، وكأنها قادة التغيير.

نوار الماغوط – العربي القديم

‎ منذ أن صدح الشعب السوري بالهتاف الذي بات أيقونة الثورة: “حرية، كرامة، عدالة”، كان الحلم واضحاً، والطريق محفوفاً بالأمل رغم وعورة التضاريس. لكن العالم أجابنا بصوت باهت: “آسف، انقطع الاتصال. حاول مرة أخرى لاحقاً!”، وكأن معاناة السوريين لم تكن سوى مشكلة تقنية مؤجلة.

اليوم، وبعد أكثر من عقد من الزمن الملطخ بالدماء، وسقوط رأس النظام السابق، وهروب الرئيس المستبد، واستلام هيئة تحرير الشام زمام السلطة بقيادة السيد أحمد الشرع، يتساءل البعض: “هل انتهت الثورة؟” ولكن هل الثورة فعلًا لعبة شطرنج تنتهي بـسقوط رأس النظام و”كش ملك”، أم هي مشروع طويل يتطلب تفكيك النظام القديم بكل أركانه، وإعادة بناء وطن جديد على أسس العدالة والمساواة؟

سقوط رأس النظام… ولكن!

ربما احتفل السوريون بزوال رأس النظام باعتباره انتصاراً كبيراً، ورفعوا الأعلام في الساحات فرحين بنهاية حقبة مظلمة. لكن هل سقوط رأس النظام يكفي؟ الحقيقة أن النظام لم يكن شخصاً واحداً يُختصر في رئيس أو جنرال. إنه شبكة معقدة نسجت خيوطها عبر عقود، تضم مسؤولين أمنيين، وتجاراً وإعلاميين وفنانين، وحتى شخصيات كانت تلعب أدواراً ثانوية في تقديم خدمات الطغيان. هذه الشبكة لا تختفي بسقوط شخص واحد؛ بل يعيد الفساد تشكيل نفسه كما ينمو العفن على رغيف قديم. إذا لم تُفكك هذه الشبكة بالكامل، فإنها ستجد طريقًا جديدًا للعودة إلى السلطة، بوجوه جديدة وشعارات زائفة.

العدالة الانتقالية ليست حلماً أو رفاهية كما يظن البعض، بل هي ضرورة جوهرية لأي أمة تسعى للتعافي من جروحها. لكن هل نحن مستعدون فعلاً لتحقيقها؟ هل هناك محاكم حقيقية لمحاسبة المجرمين؟ أم أننا استبدلناها باحتفالات استعراضية في ساحات دمشق، حيث يُرفع المشاهير والإعلاميون على الأكتاف وكأنهم أبطال تحرير؟

المفارقة المؤلمة هي أن رموز الفساد ما زالت طليقة. الأمنيون والتجار الذين استغلوا النظام واستفادوا من استبداده ما زالوا ينعمون بأموالهم المنهوبة، بينما أهالي الشهداء لا يجدون حتى مكانًا لدفن أحزانهم. العدالة غائبة، والمحاسبة مؤجلة، وكأننا نغلق الجرح دون تنظيفه، تاركين الالتهاب ينتشر ليهدد ما تبقى من جسد الوطن.

الأموال المنهوبة… جريمة لا تسقط بالتقادم

النظام السابق لم يكتفِ بالقمع والدمار، بل سرق خزائن الدولة وحوّل أموال الشعب إلى أرصدة في بنوك سويسرا وجزر الكاريبي. هذه الأموال التي تم تهريبها تُعد جزءًا من مأساة سوريا الكبرى. اليوم، وفي وقت نحتاج فيه إلى كل قرش لإعادة الإعمار، نجد أنفسنا نعتمد على التبرعات لبناء أماكن إيواء وشراء الأطراف الصناعية، بينما تظل أموالنا المنهوبة في أيدي من نهبونا.

إعادة الإعمار ليست مجرد مشروع هندسي لإعادة بناء ما دمرته الحرب. إنها مشروع وطني لإعادة بناء الثقة بين الشعب والدولة، بين المواطن والمستقبل. لكن كيف يمكن أن تتحقق هذه الثقة إذا كانت الأيادي التي تمتد لإعادة الإعمار هي نفسها التي دمرت البلاد ونهبت خيراتها؟

المفارقة العبثية هنا هي أن نفس الأسماء التي كانت جزءاً من فساد النظام، تظهر اليوم في المشهد الجديد، وكأنها قادة التغيير. الذراع المالي لماهر الأسد محمد حمشو، وجمال سليمان ابن منصة القاهرة المعادية في مبادئها المعلنة لكل قيم الثورة وإسقاط النظام، وعمه وزير الإعلام الفاسد محمد سلمان الذي يحتفي به صهر الطائفة أنس أزرق بلا ذرة خجل أو حياء على شاشة قناة العربي القطرية، وأبناء دريد لحام، وغيرهم من رموز المرحلة السابقة، يُحتفى بهم وكأنهم رموز ثورية، بينما الضحايا الحقيقيون يُهمشون ويُنسون ويقبعون في زوايا النسيان يتابعون عملية إعادة التدوير هذه.

رموز الماضي الأسود… لماذا تعود؟

لا يمكن بناء سوريا جديدة على أنقاض نظام قديم دون التخلص من كل ما يمثله. ولكن ما نراه اليوم هو محاولة لإعادة تسويق نفس الرموز القديمة تحت شعارات “الكفاءة” و”العلاقات الدولية”. هذا النهج لا يبني دولة جديدة، بل يعيد ترميم الهيكل القديم الذي انهار على رؤوسنا. إذا استمر الحال كما هو، فإننا ندور في حلقة مفرغة، حيث نعيد إنتاج الماضي بكل قبحه بدلاً من الخروج منه.

الثورة ليست مناسبة عابرة للاحتفال، بل هي مشروع مستمر لإعادة تشكيل الهوية الوطنية على أسس جديدة. إذا كانت الرموز التي تُرفع اليوم لا تمثل هذه الأسس، بل تمثل امتدادًا لثقافة القمع والفساد، فإننا نحكم على المستقبل بالفشل قبل أن يبدأ.

كسر الحلقة المفرغة

السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه الآن: هل نحن قادرون على كسر الحلقة المفرغة؟ أم أننا محكومون بالعيش في دوامة يُعاد فيها تدوير نفس الأسماء والوجوه، بينما يتفرج الشعب كما لو كان يشاهد موسمًا جديدًا من مسلسل درامي فاشل؟

كسر هذه الحلقة يتطلب شجاعة حقيقية. الشجاعة لا تعني فقط الإطاحة بالديكتاتوريات، بل تعني أيضاً رفض كل من يحاول إعادة إنتاجها بوجوه جديدة. لا يمكن بناء المستقبل بأدوات الماضي، ولا يمكن تحقيق التغيير من خلال أشخاص كانوا جزءًا من المشكلة.

العدالة والكرامة… ركيزتان أساسيتان

العدالة ليست مطلباً ثانوياً، بل هي أساس أي بناء سياسي أو اجتماعي. العدالة تعني محاسبة كل من أجرم بحق الشعب، سواء كانوا سياسيين، أم رجال أعمال، أم فنانين استغلوا نفوذهم لدعم الطغيان. الكرامة تعني أن يشعر كل مواطن سوري أن دمه وألمه لم يذهبا سدى، وأن تضحياته أثمرت وطنًا يحترم إنسانيته.

سوريا تحتاج إلى وجوه جديدة، تحمل فكرًا نقيًا وإرادة صلبة. نحن بحاجة إلى قادة يضعون مصلحة الوطن فوق مصالحهم الشخصية، ولا يخشون محاربة الفساد أينما وجد. الثورة الحقيقية هي التي تُحدث تغييرًا جذريًا في بنية النظام وفي طريقة التفكير.

رسالة إلى القائد أحمد الشرع

ختاماً، رسالة إلى السيد أحمد الشرع: الثورة ليست مجرد تغيير في السلطة، بل هي عملية شاملة لتنظيف الوطن من كل مظاهر الفساد والاستبداد. كما أن الجروح لا تُشفى إلا بعد تنظيفها وتعقيمها، فإن سوريا لا يمكن أن تتعافى إذا تُركت الجراح مفتوحة دون معالجة حقيقية. إذا أردنا لسوريا أن تنهض من كبوتها، فلا بد من تطهير الجسد الوطني من كل ما علق به من فساد وظلم.

سوريا الجديدة ليست حلماً مستحيلاً، لكنها تحتاج إلى إرادة لا تعرف الخوف. الثورة ليست لحظة، بل مسار طويل يتطلب صبرًا وعزيمة. إذا كانت البداية صعبة، فإن النهاية يجب أن تكون مشرفة، تليق بدماء الشهداء وأحلام الملايين. العدالة والكرامة ليستا مجرد شعارات، بل هما أساس بناء سوريا الحرة التي نحلم بها. الثورة مستمرة ما دامت هناك قلوب تنبض بالحلم وإرادة تصر على تحقيقه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى