لا لنشرات الأخبار باللغة الكردية
إن المسألة تتجاوز مجرد بث نشرة أخبار بلغة أخرى. إنها تتعلق بأسس بناء الدولة والمجتمع على قاعدة المواطنة المتساوية

عبد الرحمن الناصر- العربي القديم
في تصريح لافت، أعلن وزير الإعلام السوري حمزة المصطفى أن الحكومة تدرس إدراج اللغة الكردية ضمن نشرات الأخبار الرسمية في التلفزيون السوري.
خطوةٌ سرعان ما لاقت ترحيبا من بعض الأصوات الكردية التي رأت فيها “انفتاحا” طال انتظاره، وصمتا من جهات أخرى فضّلت التريّث، بانتظار ما إذا كانت الأقوال ستُترجم إلى أفعال. لكن بعيدا عن المجاملات الإعلامية والاستثمار السياسي الآني، يحق لنا أن نتوقف عند هذه الخطوة ونتساءل: ما القيمة الحقيقية لإدراج بضع جمل كردية في نشرة رسمية؟
في ظاهرها، تبدو هذه خطوة إيجابية نحو الاعتراف بالتنوع الثقافي واللغوي في سوريا، إلا أنها في جوهرها، ومن وجهة نظري، لا تعدو كونها لفتة رمزية، تفتقر إلى العمق والأثر الفعلي المطلوب لمعالجة قضايا الهوية والتعددية في وطن أنهكته سنوات الصراع والانقسام.
نعم، أختلف مع هذه الخطوة من حيث الجوهر والمآل، لا لأنها تعترف باللغة الكردية، فهذا أمر محسوم يجب أن يكون من البديهيات، بل لأنها تكتفي بالإيماء الرمزي في وقت نحتاج فيه إلى مراجعة شاملة، لا إلى زينة شكلية.
ناهيك عن أن الجمهور الكردي نفسه بات يستهلك إعلامه الخاص منذ سنوات، عبر قنوات ومنصات تنقل إليه روايات “مسمومة” بلغته، ما يجعل من هذه الخطوة قفزا متأخرا على قطار سبق أن غادر المحطة. فإن مثل هذا القرار، إذا ما اتُخذ بمعزل عن رؤية شاملة، قد يفتح بابا يصعب إغلاقه من الشعور بالمظلومية والتمييز لدى مكونات سورية أخرى لا تقل أصالة وأهمية، مثل التركمان، والشركس، والسريان، والآشوريين، والأرمن… فهل نقيس الانتماء بمدى الصوت المرفوع أو الوزن السياسي؟ هل نعترف بلغات الأقليات بناءً على الضغوط أم بناءً على العدالة؟
مثل هذه الخطوات الانتقائية تعيد إنتاج الإقصاء، ولكن بوجه جديد: تفضيل مكوّن على آخر، بذريعة التقدير والتقريب، بينما المطلوب هو المساواة لا الترضية.
إن الحل الحقيقي ليس في إدخال بضعة عبارات بلغات غير العربية إلى قوالب تقليدية عتيقة، بل في إطلاق منصات إعلامية مستقلة، ناطقة بكل لغةٍ من لغات النسيج السوري. قناة كردية رسمية، وأخرى تركمانية، وثالثة سريانية/آشورية… لا تمارس التجييش، ولا تستجلب أجندات الخارج، بل تقدم مضمونا متوازنا ومعتدلا ووطنيا بامتياز، يحترم الخصوصية الثقافية لكل مكون دون أن يَجرّه إلى ولاءات متطرفة أو انفصالية.
وهذا ليس ضربا من المثالية. ففي زمن تعددية المنصات، يصبح من الممكن – بل من الضروري – أن تتحدث الدولة مع أبنائها بلغاتهم الأم، لكن بأدوات مهنية وحيادية، لا بمنهجية البث الموجه أو الدعاية الشعبوية.
ولنكن صريحين: معظم الوسائل الإعلامية التي تخاطب “الأقليات” اليوم، سواء داخل البلاد أو خارجها، وقعت في فخ القومية المفرطة، سواء كانت كردية أو تركمانية أو غيرها.
انظر إلى تجربة قناة “روداو” الكردية، على سبيل المثال، كيف تحولت إلى منبر مسيّس يتبنى خطابا مواليا لأيديولوجيا محددة دون أن يعبّر عن التنوّع الكردي الحقيقي. وكذلك الحال في بعض القنوات الأرمنية أو السريانية التي تُبث من الخارج، حيث تغلب النزعة الطائفية أو القومية الضيقة على روح الانتماء الوطني.
إن الاكتفاء بالتفاعل مع هذه التجارب عن بعد، دون أن تنتج الدولة بديلا وطنيا محترما، لا يفيد إلا في تكريس العزلة والانغلاق.
وقد يقول قائل إن خطوة إدراج اللغة الكردية في النشرات الرسمية، حتى وإن كانت رمزية، يمكن قبولها مؤقتا كـ “بادرة حسن نية” من الحكومة. في الحقيقة لا أرفض “حسن النوايا” إن وجدت، ولكني أوكد أنها، بمفردها، لا تبني أوطانا ولا تعالج أزمات متجذرة. “بادرة حسن النية” يجب أن تتبعها خطوات عملية وجريئة، تعكس إرادة حقيقية للتغيير والإصلاح.
ختاما، إن المسألة تتجاوز مجرد بث نشرة أخبار بلغة أخرى. إنها تتعلق بأسس بناء الدولة والمجتمع على قاعدة المواطنة المتساوية، والاعتراف بالتنوع كعامل قوة وثراء، وليس كنقطة ضعف أو تهديد. أدعو الحكومة السورية إلى تبني حلول استراتيجية طويلة الأمد، تضمن حقوق جميع المكونات دون تمييز، وتحفظ وحدة سوريا أرضا وشعبا. إنصاف الجميع هو السبيل الوحيد لتعزيز اللحمة الوطنية وإعادة بناء الثقة المفقودة، أما الحلول الترقيعية والرمزية، فلن تزيد المشهد إلا تعقيدا، ولن تجلب للوطن إلا المزيد من التجاذبات التي هو في غنى عنها.
كما أدعوها إلى ألا تقتصر خطواتها في هذا الإطار على المجال الإعلامي وحده، بل أن تمتد إلى التعليم والثقافة وسائر ميادين الحياة العامة.
وفقط حين يُتاح لكل مكوّن أن يرى صورته وصوته في مرآة الوطن، نكون قد بدأنا فعلاً في ترميم الشرخ الذي خلّفته عقود من التهميش والإقصاء.