العربي الآن

حين كانت الأكثرية تُذبَــــح: المغالطات في حديث “الأقليات”

حين تصنف الناس وتختار التعاطف مع مأساتهم على أساس ديني أو عرقي

كاظم آل طوقان – العربي القديم

بداية الثورة السورية، اتصل أحد عناصر النظام الساقط  بالفنان السوري مازن الناطور، وشتمه لموقفه من الثورة  قائلاً: “يا حفيد يزيد”، ليرد الناطور بالقول: “والله يا دوب اعرف اسم جدي”!

 كلام الطرفين يشرح الفرق بين عقليتيهما، ما بين أول مدفوع بأحقاد ثأرية ماضوية غارقة في رواياتها السوداء، و ثانٍ رد بمنطق السوري السوي المعتدل في فكره والمؤمن بانتمائه للعصر… فبدا ذلك أكثر من قبل “الناطور” حين خرج بعد سقوط النظام، بمقطع فيديو جميل يلاطف فيه مكوناً سورياً معيناً، يعطيه التطمينات ولم ينطلق من غمرة الفرح والتحرير إلى لغة التهديد والتحقير، وهذا لعمري لهو الفرق بين منطق أصحاب مبدأ سوريا الحرة وبين “فكر” من ربطوا البلد بمصير أسد قالوا من أجله “لأجلك سنحرق البلد” و”الأسد أو نحرق البلد”

هذا ما تلفظ به وأشار إليه بشكل مباشر وغير مباشر فنانون موالون للنظام البائد، عبروا عن حقدهم الثأري الماضوي غير مرة، أحدهم لم يتردد  بالإشادة بـ “سماحة” الخميني وآخر استنجد قبيل هروب الأسد بـ “ميليشيات زينبيون وفاطميون” في إشارة طائفية واضحة، وللمفارقة كثير من أولئك باتوا الآن يحاضرون علينا بالثورة ويقولون إنه كان مغرراً بهم وكانوا خائفين من البعبع الذي روج له النظام كما روج لفكرة أنه “حامي الأقليات”

وإذا كان يؤخذ على أسد استخدامه ورقة “الأقليات” في سبيل حرب الإبادة التي شنها على السوريين فذبح فيها الأكثرية ودمر مدنها بالبراميل، فإنه يؤخذ أيضاً على سوريين آخرين على الضفة الثانية وعلى المجتمع الدولي وعلى شخصيات تعرف نفسها بأنها “علمانية” ومستقلة، سورية وغير سورية، استخدام مفردة “الأقليات” في حديثها عن الشأن السوري وكأنه المخاوف الوحيدة التي يجب مراعاتها والانتتباه لها، وهذا بحد ذاته دليل على سطحية في الطرح، وانتقائية في المشاعر والمواقف، ذلك أنك تصنف الناس وتختار التعاطف مع مأساتهم على أساس ديني أو عرقي وليس على أساس الإنسانية أولاً وأخيراً بصرف النظر عن المعتقد والمذهب والقومية ، وإذا ما أردنا “الخوض مع الخائضين” في هذه المفردة، أي  “الأقليات” ، فدعونا نسمي الأشياء بمسمياتها ونناقش في الواقع ، إذاً أنتم يا أصحاب هذا الطرح ، لستم ضد حرب الإبادة والتهجير والمعتقلات التي تعرضت لها الأغلبية السورية طالما أنها من لون معين وكأن سفك دمها حلال ، ولكنكم “تتحفظون” على سحب تلك الجرائم على بشر آخرين، تميزونهم عن الضحايا ، بموجب الدين والمعتقد، إذاً لماذا لم تنظروا لأطفال مضايا وخنقى دوما ومهجري حمص وقتلى سكاكين الطائفيين في الحولة على أنهم من “الأقليات” حتى تتحرك مشاعركم النبيلة ؟ لماذا لم تكونوا يوماً بجرأة الكاتب المسيحي الماروني نبيل خليفة  “والتسمية هنا لدلالة معينة وليست طائفيةً كما نُتهم” ، الذي قال إن ما يحدث في سوريا حرب على السنة، وما قاله خليفة ليس اكتشافاً بل هو الواقع الذي يمكن مشاهدته بتتبع هوية ساكني المخيمات والمعتقلين والقتلى وما نقله أحد شيوخ السويداء الكرام عن تهديد لضابط أسدي قال له بالحرف “شوفوا يا دروز لقد عفسنا ببطن مليون سني ومالنا عاجزين عنكم” وهذا غيض من فيض، لكن “البرستيج” لدى المثقفين يحول دون تسمية الأشياء بمسمياتها، وهؤلاء جميعهم يضعون أنفسهم في مغالطات أخرى منها القول إن “الأقليات” كانت تعيش في الرقراق في زمن الأسد وهو الذي سحق كافة الشرائح السورية فقراً وقهراً وقمعاً، كيف لا وهو الذي سجن الروائي مصطفى خليفة سنيناً عددا، وقد روى خليفة تفاصيل حياته في سجن تدمر في رواية (القوقعة) على لسان شخص مسيحي كان معه فعلاً في السجن ومسجون بتهمة الانتماء لـ “الإخوان”!

كما لا تخفى جرائم النظام ضد مسيحيي لبنان من اغتيال شخصيات عديدة ، من سياسيين وصحفيين ، فضلا عن مخططه المعروف لتنفيذ عمليات اغتيال تطال كنائس وشخصيات روحية معروفة، ولا أدل على ذلك مما كشفته وثائق عثر عليها في أقبية “حامي الأقليات” تثبت دوره في تنفيذ عمليات تفجير ، عندما تقع فإنها لا تميز بين هذا وذاك

والمغالطة الثانية في تكرار مصطلح “الأقليات”   أو “حماية الأقليات” أنك تغمز خبثاً أو جهلاً أنها مُحاطة ببعبع سوف يجتثها، متناسياً أن هذه “الأقليات” موجودة قبل الأسد الذي أرسلته العناية الإلهية ليحميها من الانقراض، وأنها -أي الأقليات- على اختلافها دليل على التنوع السوري، وُجدت وبقيت ، وستستمر فهي ليست من “إنجازات الحركة التصحيحية”. وهنا أذكر مفارقة “للتاريخ” أنه عندما دخل مغول العصر لمنطقتي في ريف معرة النعمان ، نبشوا ضريح الخليفة عمر بن عبد العزيز ، في شكل يعكس مدى الحقد المعتمل في الصدور من قبل متطرفين ، ليتهم امتلكوا “شرف” المواجهة العسكرية، والمفارقة الثانية أنه عندما دخل السوريون دمشق ، لم يدنسوا معبداً أو ضريحاً لأحد من الأموات، ولم ينتقموا من الأحياء ويتهموهم بـ “الحواضن” كما كان يفعل جنود الأسد في عمليات انتقام تبدأ بقتل المدنيين ولا تقف عند بيع ممتلكاتهم فيما وصفها الهمج أنفسهم “أسواق غنائم أهل السنة”

كما أنكم في هذا الطرح تحاولون الإساءة لـ “الأقليات” ذاتها في إشارة غبية لدور سوريين من مختلف المكونات في ثورة الكرامة، دور بدأ منذ انطلاق مظاهرات تحاكي النسيج الجامع، كجمعة صالح العلي وآزادي وسلطان باشا الأطرش والجمعة العظيمة، ولم ينتهِ، أي الدور، بمظاهر التعاضد والتلاحم بين السوريين فرحا بسقوط النظام، في الميادين  والزيارات المتبادلة على وقع الشعر والأهازيج كما حدث مثالاً؛ بين درعا والسويداء وفي الساحل، ولا يُخفي ذلك صوت نشاز هنا أو تصرف فردي هناك

وما استخدام مفردة “الأقليات” إلا جانباً من محاولات كثيرين للقفز على الثورة ووأد طموحات السوريين الراغبين في تشكيل دولة مدنية تعددية، لا تميز بين هذا وذاك، المعيار فيها للكفاءة وليس “الوصاية” من  “أبو حيدر جوية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى