عذابات الشعب السوري في زمن الاستبداد والخيانة
نوار الماغوط – العربي القديم
في أرض تتنفس الموت، وتقتات على الرماد، يعيش السوري مرغماً على أداء دور البطولة في مسرحية لا نهاية لها. حقل واسع من الدخان والأحجار والذكريات المهشّمة، كل حجر فيها يحكي قصة، وكل قصة تتقيأ حلماً كان يتوسد صدر صاحبه قبل أن يبتلعه ليلٌ كثيف. إنها سوريا، تلك الجثة الملقاة على قارعة التاريخ، يدوسها العالم بألف قدم، تئنّ، تصرخ، لكنها عاجزة عن النهوض.
في الداخل، الناس يمشون كما لو أن السماء موضوعة فوق رؤوسهم، تنحدر شيئاً فشيئاً في كل لحظة. الجدران تنزف حنيناً للأيام التي كانت فيها دمشق تمتلئ بضجيج الأطفال وأصوات الباعة. لم يتبقَّ منها إلا الرماد وصدى صرخة عابرة، ابتلعتها شاشات الأخبار قبل أن تصل إلى الجيران. كل شيء هنا متشابه: القهر هو القهر، والسجان هو السجان، لا فرق بين عصا الجلاد وعمامة المعارضة. الجميع هنا يتسابقون نحو الوطن؛ وطن الجثث والأقفاص، وطن الرجال الذين يتنفسون الذل ويُطعمون أطفالهم مرارة الوجع مع كل كسرة خبز.
تُرى، ماذا تبقى من الشرف حين يُباع ويُشترى في سوق الكذب والنفاق؟
ماذا تبقى من الحرية حين تصبح شعاراً أجوف تردده الألسن الجافة في طوابير الغاز والخبز؟
أولئك الذين سُلبت منهم كرامتهم منذ الطفولة، يتنقلون اليوم في طوابير الانتظار، يرتدون ثيابهم المرقعة ويقفون صامتين، ينتظرون ضربة جديدة، قنبلة أخرى، طابوراً آخر، لا فرق؛ فالطوابير هنا تشبه طوابير هناك، والمقابر لا تتغير أسماؤها وإن تغيرت الأعلام.
في الخارج، السوري غريب في أرض لم تنبت له، يستيقظ كل صباح على عفن الروح، يجرُّ جسده المهترئ بين البيوت الغريبة والشوارع المغتربة. يجوب الأسواق بنظرات فارغة، يتأمل وجوه الناس بقلوب خاوية، يبتلع ريقه حين يشتمّ رائحة الخبز والقهوة، ويمسح عينيه كلما لمحت عيناه وجهاً يشبه وجه والدته أو ابنته. كل ما حوله يذكّره بأن هناك وطناً نُهب في وضح النهار، ووعداً قُتِلَ على يد أبطالٍ من ورق.
النظام هناك، يسير بين الأشلاء، ينحني كما الموت على رقاب الأحياء. وفي الطرف الآخر، هنالك جوقة أخرى من المتسلقين تتوشح بالحرية لكنها تفعل كل ما فعله النظام وأدمنه. تخرج علينا المعارضة بوجوه غريبة وشعارات ملساء، تتحدث بلغة لا يفهمها السوري الجائع ولا تلامس ضميره المتعب، فقد استبدلوا الحلم بكوابيس أخرى، وعدوا بالحرية ووزعوا السلاسل، باسم الكرامة وزّعوا الطين وجرّوا الشعب نحو هاوية جديدة.
هنا و هناك، لا صوت يسمع، ولا أذن تصغي، وكأن الجميع تواطؤوا على الغياب. في سوريا، الصراخ تهمة، والحلم فخٌّ منصوب بعناية. هناك، القلم يكسر قبل أن يُكتب، واللوحة تمزق قبل
أن يُرى فيها وجه الأم وابنتها.هنا , هناك لا يسمع أحد أنين الأمهات، ولا تُرى دموع الآباء وهم يدفنون أبناءهم، دفناً بارداً لا عزاء فيه، فالكل صار يدفن الجميع، حتى الأحلام.
هناك حيث الفقر ضيف ثقيل، والجوع يقتات على أكفّ الفلاحين الذين كانوا يزرعون القمح ذات يوم، يجلس السوري بلا سند، بلا أمل، ويمدّ يده للعابرين كأنما يطلب منهم أن يتذكروا أنهم تركوا وطناً خلفهم. لكن، من يسمع؟ من يرى؟ فقد ازدحمت المؤتمرات والمسارات ، وكثر صانعو القرارات، وبات الجميع يتاجرون بآلام شعب سحقته الحرب ونسيه السلام. الكل يرمي الكرة في ملعب الوطن، يطعن فيه ثم يغسل يديه ويشيح بوجهه، يترك الأطفال يتامى، والشباب بلا مستقبل، والشيوخ بلا ذكريات.
أما أولئك القابعون في قصورهم بعيداً عن حارات سوريا العتيقة، فأحلامهم واسعة كحجم رذيلتهم، وأكاذيبهم خرافية، ينتزعون قلوبهم ساعة يشاؤون ويضعونها في جيوبهم قبل أن يخطبوا خطبًا عن الوطن. يتحدثون عن الحرية بينما تبتلع قضبانهم آلاف الأحلام،
لن تبكيك الشام يا من هجرتها، ولن تفتقدك حمص يا من بعتها، ولن تلتفت إليك حلب وهي تدفن صغارها تحت الأنقاض. سوريا اليوم ليست إلا جرحاً مفتوحاً، صوتاً خافتاً يعبر عن أنين شعبٍ سحقه الطغاة وخذله المنقذون. بات الوطن لعبة في يد المتاجرين والقتلة، أمّا الشعب، فما عاد يعرف إن كان عليه أن يحلم أم يبكي، أن يثور أم يلوذ بالصمت.
هنا سوريا، حيث يبقى الأمل قنديلاً يُطفأ ببطء، وحيث الكرامة تُباع على أرصفة الغرباء، وحيث يبقى الشعب معلقاً بين وطن سرقوه وحرية نسجوها فوق الأشلاء.