الرأي العام

جدلية النقد والتطبيل: أنا يا صديقة متعبٌ بسوريتي!

الخيبة الأكبر لم تكن فقط بسبب من يحكمون اليوم، بل الخيبة من رفاق الثورة، رفاق الأمس القريب جداً من طلاب الحرية

محمد عبد الستار إبراهيم – العربي القديم

حين كتب الشاعر الكبير نزار قباني هذا البيت في قصيدة عصماء هزّت عروش الطغاة: «أنا يا صديقة متعب بعروبتي، فهل العروبة لعنة وعقابُ؟»، كان ذلك في تونس على إثر نقل جامعة الدول العربية من القاهرة بسبب تطبيع مصر تحت حكم أنور السادات آنذاك مع الكيان الصهيوني. لكن نزار لم يكتفِ بهجاء النظام المصري فقط، بل هاجم جميع الأنظمة العربية المستبدة، فكان في آخر القصيدة أنينه الحزين وهو يقول: «أنا يا صديقة متعب بعروبتي».

خيبة كبيرة

لا يصل الإنسان منا إلى هذا الأنين إلا بعد خيبةٍ كبيرة؛ فهذا ليس بشعور آني، إنما شعور تراكم بعد محاولات كثيرة لتغيير أمر ما. وأنا اليوم أصدح بذات الأنين الذي يغزو روحي: أنا يا صديقةُ متعبٌ بسوريتي.

لم أصل يوماً إلى هذا الشعور من الخيبة طوال فترة الثورة التي امتدت إلى قرابة عقد ونصف تقريباً. رغم كل الهزائم والخذلان والخيبات والخسائر والمصاعب والكوارث والدماء والتهجير والتشريد والإذلال، كان ذلك يمدّ من عزمنا. وكنت دائماً أقول: والله لو بقيت وحدي لن أتنازل عن مطلب إسقاط النظام. وكان مثلي الملايين.

ولكن حينما أتى النصر المؤزر وسقط النظام وتحقق حلم مليون شهيد ومئات الآلاف من المعتقلين والمختفين قسرياً والمصابين، فجأة سُرق منا النصر والفرحة لأسباب كثيرة. والخيبة الأكبر لم تكن فقط بسبب من يحكمون اليوم، بل الخيبة من رفاق الثورة، رفاق الأمس القريب جداً، من طلاب الحرية الذين تحول الكثير منهم إلى مؤيدين جدد لا يفرقون عن مؤيدي النظام السابق بأي شيء: ذات الهمجية، وذات التطاول بالسباب والشتم والتخوين. كيف ذلك؟ عقلي لا يستوعب. بل ذهب الكثير إلى التملق والنفاق في محاولة للحصول على منصب ما، وهو ما حصل مع الكثيرين.

هل لأجل ذلك خرجنا في الثورة، فقط لإسقاط نظام الأسد؟ لا والله لم يكن ذلك، بل كان الهدف الأسمى يتجلى بتغيير المنظومة ككيان سياسي واقتصادي وفكري وعلى جميع الأصعدة. ثورة على جميع المفاهيم السابقة العفنة التي ما لبث أن لبسها رفاقنا.

خيبة جعلتني أبتعد عن الشأن العام، وأنا الذي بقيت في قلب الحدث حتى الرمق الأخير. فالذين وصلوا إلى الحكم ويصفق لهم طلاب الحرية اليوم، لا يختلفون كثيراً عمّن سبقهم. المحسوبيات ما زالت هي هي، وذلك واضح وضوح الشمس من خلال التعيينات في الوظائف والمناصب: تقديم الولاء على الكفاءة، التعيينات من ذات اللون أو الأقارب والأصدقاء. وهو ما لا يختلف عن النظام السابق، والأمثلة بالعشرات. أما الفوضى الإدارية فهي عارمة في جميع المؤسسات، وعلى جميع الأصعدة. والنتيجة: عندما يُقَدم الولاء على الكفاءة، سيبقى الفاسد والشبيح السابق في منصبه بدلاً من الثائر.

أما الاستئثار بالسلطة، فهذه طامتنا الكبرى وسبب خيبتي الشخصية. لعل ثوار 8 ديسمبر 2024 ومن والاهم وتبعهم والمؤيدين الجدد، نسوا لماذا قامت الثورة السورية أو ما هي المطالب التي كانت تُرفع في بدايتها. لم يكن الجوع والفقر – رغم أنهما أسباب عظيمة وشريفة لأي ثورة – بل كان من أهم المطالب تغيير المادة الثامنة من الدستور، التي كانت تنص على أن حزب البعث العربي الاشتراكي قائد الدولة والمجتمع. وكانت المطالب بتغيير الدستور ككل لأنه كان يضع جميع الصلاحيات بيد شخص الرئيس.

واليوم، وبعد كل التضحيات، نجد أنفسنا أمام رئيس يجمع لنفسه صلاحيات تجاوز بها حافظ وبشار الأسد.

أما على صعيد العقد الاجتماعي وحالة الاحتقان، فهذا يبكي جبل قاسيون قبل أن يبكينا نحن البشر. اليوم نحن على حافة الهاوية؛ فالمجتمع تحول إلى مجتمعات، وصار من الصعب لملمة الجراح وإعادة العقد الاجتماعي السوري لأنه انفرط بالدم. تحول الولاء من الوطن إلى الولاء للمذهب أو القومية أو الدين أو المنطقة. الكل تقوقع ضمن دائرته الضيقة. وما هكذا تُبنى الأوطان.

من يتحمل المسؤولية؟

السؤال يطرح نفسه ويجيب نفسه: رئيس الجمهورية، الذي وضع جميع الصلاحيات بيده، يتحمل المسؤولية بالدرجة الأولى. فلو كان الحوار الوطني حقيقياً لما وصلنا إلى هنا. لو قبل بمشاركة باقي المؤسسات والمنظمات الثورية في الحكم لما كان وضعنا كذلك. لو قدم الكفاءة على الولاء، لما خرج علينا بإعلان دستوري نترحم بسببه على دساتير آل الأسد. لو حقق العدالة الانتقالية وجعلها أولوية لا يعلو فوقها شيء، لما رأينا الخيبة تغزو القلوب ونحن نرى المجرمين والمفسدين يسرحون ويمرحون ويتمتعون بالمناصب.

لو سلّم الرئيس الإعلام لأهله وناسه، لما وجدنا الماكينة الإعلامية تحرض يمنة ويسرة على أبناء الوطن، حتى وصلنا إلى أن يسنّ السوري سيفه على أخيه السوري. تراجعنا ألف خطوة إلى الوراء بدل خطاب وطني جامع يشملنا جميعاً. كيف لا، ومن كان حتى آخر لحظة يدافع عن الثورة بشراسة، يوضع ضمن قائمة العار لأنه فقط ينتقد أخطاء هذه الحكومة وشخص الرئيس الذي لا يُفترض أن يكون مقدساً، وفقاً لمبادئ الثورة السورية المباركة.

أذكر هنا الممثلة السورية الحرة يارا صبري، التي حملت ملف المعتقلين منذ بداية الثورة، وهو ملف فشلت كل مؤسسات المعارضة الرسمية مثل الائتلاف في تحمله. فكيف لمثل يارا أن توضع ضمن قائمة عار – بغض النظر عن أهميتها ومن وضعها؟ لو كان لدينا إعلام حقيقي لكان أول من يتصدى لهؤلاء الموتورين، بل لكان الإعلام الرسمي استضافها وكرمها، وفتح لها المجال لرد الاعتبار. لكن ترك الأمور على ما هي عليه، بين الذباب الإلكتروني وصمت الإعلام الرسمي، يجعلنا أمام مأساة حقيقية: لا كرامة لمن لا يقدم الولاء.

سيقولون عني فلول، أو من عصابات الهجري الخائن، أو موالٍ لقسد، بسبب نقدي. ولن يقول أحد إنني سوري مجروح أراد ويريد أن تكون أول حكومة بعد انتصار الثورة شاملة لكل السوريين، ترفعنا إلى مصاف الدول.

النقد المخلص

أتذكر مشهداً من المسلسل المصري الشهير “رأفت الهجان” الذي أداه العملاق الراحل محمود عبد العزيز. كان يجسد جاسوساً مصرياً زرع في تل أبيب لتجنيد شخصيات إسرائيلية لصالح المخابرات المصرية. وأثناء دراسته للشخصيات، اقترح تجنيد سيلينا أهاروني، لكونها أكثر المنتقدين للحكومة. فجاءه الرد صادماً: تجنبها، لأن نقدها نابع من خوفها وولائها لدولتها، أما المنافقون والمطبلون فكانوا على رأس قائمة التجنيد، لأنهم لا يبحثون إلا عن مصالحهم.

النقد إذاً من مبادئ الثورة، حتى لا نقع بأخطاء الماضي. وقد تطرقت لهذه الفكرة في مقال سابق بعنوان: موالون جدد ومعارضون دائمون… انقلاب الأدوار بعد سقوط النظام.

أحلم بسورية الخمسينيات، بلد حر ديمقراطي، لا تقديس فيه سوى للوطن. أحلم أن أعود إلى وطني بعد غربة 21 عاماً لأستقر فيه. كان هذا هدفي الأسمى بعد سقوط النظام السابق. ولكن، هل سأكون في مأمن عند عودتي وأنا أرفض هذا الواقع المرير؟ أم سيكون مصيري كمصير الشاب يوسف اللباد، الذي عاد بعد التحرير وقُتل تحت التعذيب؟

من أين أدخل في القصيدة يا ترى؟

والشمس فوق رؤوسنا سرداب

إن القصيدة ليس ما كتبت يدي

لكنها ما تكتب الأهداب

نار الكتابة أحرقت أعمارنا

فحياتنا الكبريت والأحطاب

ما الشعر؟ ما وجع الكتابة؟ ما الرؤى؟

أولى ضحايانا هم الكُتّاب. (نزار قباني)

زر الذهاب إلى الأعلى