موالون جدد ومعارضون دائمون: انقلاب الأدوار بعد سقوط النظام
ما هو الدور الحقيقي للمعارضة بعد التغيير؟ هل المعارضة مجرد حالة دائمة أم وظيفة متحولة؟

محمد عبد الستار إبراهيم – العربي القديم
في لحظة الانتصار التي طالما انتظرناها بعد أكثر من عقد، قدم فيها الشعب السوري الغالي نفائسَه وزهرة مستقبله، ظننا أن النضال السياسي والثوري قد بلغ غايته ونضج بعد كل ما مرّت به ثورتنا من تقلبات وظروف صعبة وتجارب أغنتنا. وكنت أعتقد أننا تعلمنا من هذه التجارب، وأن الأصوات الحرة ستبقى حرة، لكننا سرعان ما وجدنا أنفسنا أمام مشهد مألوف بأبطال مختلفين. أولئك الذين قضوا سنوات في معارضة النظام السابق صار بعضهم اليوم أشدّ الموالين للنظام الجديد، يهاجمون أي صوت ناقد، ويصنفون المعترضين كما كانوا يصنّفون هم: خونة، أعداء، متربصين…
لقد تبدّلت المواقع، لكن بقيت العقليات ذاتها. من كان يرفع راية الثورة ضد الظلم بات اليوم يرفعها ضد كل من يجرؤ على انتقاد الحكومة التي جاءت من نتاج انتصار الثورة. ومن كان يشجب التطبيل والتصفيق الأجوف صار اليوم في طليعة المصفّقين، غير أن المنصة تغيّرت فقط. والنتيجة أننا نعيش مشهداً عبثياً، فيه معارضون لا يعرفون ما يعارضون، وموالون يكررون خطايا من ثاروا عليهم.
المفارقة الأشدّ إيلاماً أن بعض مَن عايشوا زمن الشبيحة – وذاقوا مرارة بطشهم وتطبيلهم – صاروا اليوم نسخة أخرى عنهم، بل أشدّ ضراوة. ليسوا فقط في الدفاع الأعمى عن كل ما يصدر عن السلطة الجديدة، بل أيضاً في الهجوم الأرعن على كل من يحاول النقد أو التصويب. أدوات التخوين والتشويه والاتهام بالخيانة تُستخدم بلا تردد، حتى ضد أبناء الثورة ورفاق الخندق والدرب، وأحياناً بأبشع الألفاظ.
في خضم هذا المشهد المقلوب، يغيب سؤال جوهري: ما هو الدور الحقيقي للمعارضة بعد التغيير؟ هل المعارضة مجرد حالة دائمة أم وظيفة متحولة؟ هل تنتهي بانتهاء النظام القديم أم تبدأ مهمتها الأصعب في مراقبة النظام الجديد، الذي نحلم أن يكون بديلاً أفضل لا نسخة مكررة؟ وشأنا أو أبينا، هذه حكومة الثورة تُحسب على ثوارها أمام كل المتربصين.
المعارضة الحقيقية ليست ترفاً سياسياً، ولا حالة مزاجية، ولا ساحة لتفريغ الإحباطات. المعارض الحقيقي ليس من يرفض كل شيء على الدوام، بل من يسعى لتصحيح كل خطأ في الوقت المناسب. هو من يخشى على التجربة لا منها، من يرى الخلل في بدايته قبل أن يتحوّل إلى كارثة، من يرفع صوته لا ليسقط أحداً بل ليمنع سقوط الكل. أما الموالاة العمياء، فهي شكل آخر من الهدم، ولو جاءت بلباس الثورة.
واحدة من أعظم علل ثورتنا أننا كنا نؤجّل النقد والتصحيح، ونكرّر ببراءة قاتلة: “مو وقتها”. أخطأنا حين ظننا أن نقد الذات خيانة، وأن كشف العيوب استغلال من الأعداء. كانت أولى نكساتنا أننا فضلنا الصمت تحت ذريعة “الوحدة” و”التفرغ للعدو”، بينما كانت الأخطاء تتضخم وتتراكم، حتى وجدنا أنفسنا في وضع يصعب إصلاحه أكثر من إسقاط النظام ذاته.
وبعد أكثر من عقد من عمر الثورة، وقفنا أمام مشهد لم يكن بحاجة إلى كثير من التحليل: فقد دخلت مؤسسات الثورة الرسمية في حالة موت سريري، من الائتلاف إلى الحكومة المؤقتة إلى هيئة التفاوض، وحتى الجانب العسكري الذي أثقلته الأخطاء المتراكمة، والتي ظللنا نشهد تداعياتها حتى المراحل الأخيرة. كان هناك فشل ذريع في الإدارة، وتخبط في الرؤية، وافتقار شبه تام إلى المصداقية والشرعية. ولأننا لم نمارس الرقابة الحقيقية منذ البداية، لم نُنتج مؤسسات فاعلة، بل أنشأنا كيانات عاجزة استُهلكت واستُغلت باسم الثورة، حتى انتهى بها الحال إلى الفشل والانهيار، وصارت عبئًا على الثورة بدل أن تكون أداة لخدمتها.
والمؤلم أكثر أن من حاولوا أداء دور الرقيب من داخل الصف ورفعوا الصوت بالتصحيح وطرحوا الأسئلة المزعجة، تمت معاملتهم كأعداء. لا فرق في ذلك بين عقلية النظام السابق وعقلية بعض الموالين الجدد؛ ذات الذهنية، ذات الخطاب، وذات السلوك العدواني تجاه أي معارضة، حتى لو كانت نزيهة وهادفة.
الثورة لم تكن يوماً لإنتاج سلطة جديدة بلا رقيب، بل لإنتاج وعي جديد يُعيد تعريف العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين الدولة والمجتمع، بين المسؤول والمواطن. وإن لم نحسن أداء هذا الدور – دور المعارض المسؤول والموالي العاقل – فإننا نُعيد إنتاج الاستبداد وإن تغيرت الشعارات والأسماء.
آن الأوان أن نكسر هذا الجمود في الأدوار. فلا نبخل بأن نكون موالين حين تكون الموالاة في خدمة المصلحة العامة، ولا نتردد في أن نكون معارضين حين يتطلب الموقف الصدحَ بالحق. لم يعد مقبولاً أن نبقى أسرى خطاب قديم يقدّس الموقف لمجرد أنه ضد، أو يهاجم النقد لأنه يضعف الصف.
إن الثورة التي لا تنتج معارضة يقظة ورقابة مسؤولة ونقداً داخلياً شجاعاً، تتحوّل مع الوقت إلى صورة باهتة لما ثارت عليه. والسلطة التي لا تحتمل النقد هي سلطة خائفة، حتى وإن لبست ثياب الثورة.
نحن لا نحتاج إلى المزيد من الأصوات الصاخبة، بل إلى المزيد من العقول الواعية. لا نحتاج إلى متاريس بيننا، بل إلى جسور. والأهم: لا نحتاج إلى “موالين جدد” بنَفَس الشبيحة، بل إلى مواطنين أحرار لا يقدّسون أحداً ولا يخرسون أحداً.
اليوم، وبعد رفع العقوبات، صار لزاماً علينا أن نبدأ بالشكل الصحيح حتى نعيد سوريا إلى مكانتها الحقيقية. التاريخ سيحاسبنا إذا أضعنا هذه الفرصة؛ فكلنا مسؤولون عن المضي بوطننا إلى شاطئ السلام والنهضة، وإما أن نكون جميعاً… أو لا نكون.
أحاول منذ البدايات…
أن لا أكون شبيها بأي أحد…
رفضت الكلام المعلب دوما.
رفضت عبادة أي وثن. (نزار قباني- متى يعلنون وفاة العرب).