العربي الآن

حماية المؤسسة الزوجية فرض عين!

أسهم استسهال الطلاق في رفع معدلاته في معظم دول المنطقة بشكل غير مسبوق في الآونة الأخيرة

مصطفى عبد الوهاب العيسى – العر بي القديم

من أبرز القضايا التي تهدد الشرق عامة، والمنطقة والشرق الأوسط بشكل خاص تراجع الاهتمام بالمؤسسة الزوجية، وفتور الحماس لبناء الأسر التي تعد النواة الأهم والأكثر فعالية في نهضة المجتمعات والأمم.

قد تكون بعض الأسباب الخارجة عن إرادتنا كالحروب والعنف والنزاعات المستمرة التي تخلق حالة من عدم الاستقرار، أو الأوضاع الاقتصادية المتدهورة التي تعتبر من العوامل المؤثرة في هذا التراجع، إلا أن استمرار هذه الظروف خلق لدى المجتمعات قدرة على التكيف والتأقلم، وهو ما مكَّنها من الاستمرار – رغم الضغوط والتحديات – في بناء المؤسسات الزوجية.

أسهم استسهال الطلاق في رفع معدلاته في معظم دول المنطقة بشكل غير مسبوق في الآونة الأخيرة، وهكذا حتى باتت الأرقام التي تنشرها الدراسات المتخصصة في الشؤون الأسرية والمجتمعية صادمة ولا يمكن تصديقها، أما معدلات العزوف عن الزواج فقد وصلت إلى مستويات مخيفة ومقلقة بكل ما تحمله الكلمة من معنى مقارنة بما كانت عليه قبل ثلاثة عقود مثلاً.

وإذا ما اتفقنا على قدرة المجتمعات على تجاوز تلك الأسباب الصعبة كالحروب والأوضاع الاقتصادية، فإننا اليوم أمام أسباب أكثر عمقاً وتأثيراً في ارتفاع معدلات الطلاق والعزوف عن الزواج وهدم القيم والأفكار التي عاشتها المجتمعات الإنسانية لآلاف السنين.

ربما يكون الانغماس – كما أشارت بعض الإحصاءات والمقالات – في وسائل التواصل الاجتماعي أحد هذه الأسباب، ومن وجهة نظري لا بُدَّ من التعمق في تفاصيل هذا السبب، ولا سيما ما يتعلق بالأصوات والمنصات التي تدس السم في العسل إن صح التعبير.

تُغذِّي بشكل غير مباشر بعض الخطابات الذكورية نزعة الأنانية المفرطة عندما تُروِّج لريادة الأعمال وتطوير الذات لدى الشباب بشكل خاطئ، وتُسهم في تضخيم الأنا الشخصية وتعزيز حب الذات بشكل ضار ومبالغ فيه ، وتُقدِّم الحياة لهم بصورة مادية بحتة وقبيحة تجعل الرفاهية المالية الغاية الأولى، وربما الوحيدة، وأن كل شيء آخر كالزواج يأتي في المرتبة الثانية وربما الأخيرة.

على الجانب الآخر تستغل بعض الناشطات النسويات الطموح المشروع للنساء لتصوير الزواج على أنه عائق لطموحاتهن، ويستخدمن جميع مفاهيم التقدم والمشاركة والحرية النسوية بأسلوب مشوَّه يوهم الفتيات والنساء بأن الزواج هدم لأحلامهن، واستقرارهن النفسي والمادي، وتهديد لإثبات الذات عند المرأة القوية والمستقلة.

بلغت الثقة في مؤسسة الزواج أدنى مستوياتها منذ أن عرف الإنسان الأسرة والمؤسسة الزوجية، وبات الإيمان بما يقدمه الزواج من أمان واستقرار شبه منعدم في ظل هذا الضخ الإعلامي الكبير الذي تقوده بعض المنظمات النسوية المشبوهة ، والتي تبث أمراضاً نفسية خطيرة في أوساط النساء بالتوازي مع تجمعات ذكورية فاشلة تُعمِّق من عقد الشباب ، وتزيدهم بُعداً عن النضج والمسؤولية.

تُعد هذه الموجات الفكرية المسمومة تهديداً حقيقياً لمجتمعاتنا، ويجب التصدي لها بأساليب مضادة ومدروسة بوعي يُعيد للمؤسسة الزوجية مكانتها وقيمتها ودورها الجوهري في بناء المجتمع.

المؤسسة الزوجية هي الأساس الذي تنهض به المجتمعات ، وتُبنى عليه الحضارات، وتندثر بغيابه، وهي التي تُساعد منطقياً في الحفاظ على ثروة منطقتنا الممثلة بالموارد البشرية والشباب والفئات العمرية الفتية، وتُجنبنا التحول إلى مجتمعات هرمة ومُسنة ، ولهذا لا بد من التنبه لهذا التهديد الخطير الذي ستنعكس آثاره، وسنلمس نتائجه خلال عقدين على الأكثر إن لم يتم تدارك الأمر اليوم.

ولست أدعو هنا إلى الزواج بشكل عشوائي أو غير عقلاني كزواج يقوم على الهروب من أعباء مادية ربما، أو تلبية لحاجات جسدية فقط ، فالزواج الناجح وبناء المؤسسات الزوجية المستقرة يتطلب أسساً متينة من التفاهم والانسجام والاحترام والمودة، كما ينبغي أن يُعزز منظومة القيم والأخلاق ، ويُسهم في تحقيق الاستقرار على المستويين الفردي والمجتمعي، بل إنني أذهب إلى أبعد من ذلك ، وأؤكد على ضرورة أن تُبنى المؤسسات الزوجية أيضاً على تجارب الحب العظيم، وأن تحقق للشريكين الراحة والسعادة لما أثبتته الدراسات من أثر مباشر لذلك في رفع معدلات الإنتاج، ونهضة المجتمعات، وازدهار الأوطان.

ترتقي المجتمعات بشكل كامل عند ارتفاع معدلات نجاح المؤسسة الزوجية، وفي هذا السياق أستذكر للقارئ – بتصرف – إحدى خلاصات نقاش مستفيض حول الزواج مع أستاذ تبلور القيم الدكتور نبيل الشيخ حسن حيث قال: “الفرد الذي يقود سيارة كاديلاك سيقود طائرة بزواج ناجح، لكنه سيعجز عن قيادة دراجة هوائية بزواج فاشل”.

ينتشر في الثقافة الإسلامية مصطلح “فرض عين” لبعض الأحكام الشرعية، وهذا يعني أنها واجبة على كل فرد دون استثناء، وانطلاقاً من هذا المفهوم أختتم بالقول إن حماية المؤسسة الزوجية، والتعريف بأصولها وأساليب نجاحها، وتوفير سبل إعادة تنشيطها هو بمثابة فرض عين يجب أن يكون حاضراً في برامج جميع الحكومات، ومنظمات المجتمع المدني، وندوات النخب الثقافية إذا ما أردنا إنقاذ مجتمعاتنا وحماية مستقبل الأجيال القادمة.

زر الذهاب إلى الأعلى