سير ذاتية ومذكرات

(من عكا إلى تكساس) مذكرات تضيء إسهامات مثقفي فلسطين وريادتهم المسرحية

العربي القديم – خاص:

صدر حديثاً عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة كتاب (من عكا إلى تكساس) مذكرات قسطنطين أسعد سيقلي 1861- 1928، بتقديم وتحقيق الباحث السوري تيسير خلف، الذي يواصل في هذا الكتاب، مسيرته التأريخية المتميزة، في نبش سير رواد النهضة في القرنين التاسع عشر والعشرين، وتتبع بدايات المسرح العربي برؤى جديدة تنسف الكثير من المعلومات الشائعة عن رواد هذا المسرح الأوائل، الذين أسقطوا من كتابات من أرخوا للمسرح العربي من قبل.

طبيب عمل في المحاماة!

وقد وصف الباحث تيسير خلف الكتاب خلال الإعلان عن صدوره على صفحته الشخصية على فيسبوك بأنه: “كتاب أكاديمي محكَّم، وهذه المذكرات شديدة القيمة في رأيي، كون صاحبها مثقف بارز من مثقفي الجليل الفلسطيني في القرن التاسع عشر، إذ درس الطب في الجامعة الأميركية في بيروت في سبعينيات القرن التاسع عشر، ولم يتخرج لأسباب قاهرة بسبب وفاة والده، لكنه عمل في المحاماة في محاكم عكا، ومديراً لحصر التبغ والتنباك الريجي خلال ثمانينات القرن التاسع عشر في لواءيْ عكا ثم طرابلس الشام، وهاجر إلى أميركا بعد انقلاب الاتحاديين على السلطان عبد الحميد”.

وكان تيسير خلف قد تعرف إلى مذكرات (قسطنطين أسعد سيقلي)، أثناء بحثه عن مصادر لروايته (عصافير داروين) التي صدرت عام 2018 وهي رواية تاريخية مثيرة تتحدث عن رحلة  قام بها فريق خيول عربية أصيلة من بلاد الشام عام 1893 للمشاركة في معرض شيكاغو، فيقعون بين أيدي عدد من المرابين والمحامين والمتمولين الأميركيين، الذين يستولون على الخيول مستغلين جهلهم بقوانين الولايات المتحدة، فيعودون مفلسين ومثقلين بالديون وتباع الخيول في المزاد العلني.

وكان المؤرخ الأردني رؤوف أبو جابر، قد نشر صورة عن هذه المذكرات في كتابه (آل الصيقلي: انتماء أصيل في شمال فلسطين)، وقد حصل خلف على صورة أكثر وضوحاً للمذكرات من أبو جابر، الذي كان حصل عليها من صديقه ميشيل سليمان سيقلي، فوجد فيها حين بدأ تحقيقها معلومات بالغة الأهمية عن أحوال الجليل الفلسطيني وولاية سوريا العثمانية، نقلها شخص عالي الثقافة درس الطب وساهم في العمل الأهلي الجمعياتي. ما شجعه على الاهتمام بها وتحقيقها.

مصادر المذكرات

كانت مصادر قسطنطين في كتابة مذكراته ذاكرته وما سمعه من والده، ولذلك لم يكن قادراً على تعيين بعض التواريخ التي لم تسعفه بها ذاكرته، فاستدرك المحقق بعض هذا، متحقِّقاً من بعض ما شكك قسطنطين في حدوثه وفي نسبته وتاريخه استناداً إلى وثائق وكتب وصحف موثوقة، وحقّق في الهوامش كثيراً من الأماكن والشخصيات التاريخية التي وردت في المخطوط، ثم أتبَع المذكرات بنوعين من الملاحق: الأول للتقارير ومقالات الصحف حينها، والثاني لوثائق عثمانية بنسختها الأصلية تتبَعُها ترجمات للمحقق.

وقد لاحظ خلف أن قسطنطين لم يعتمد التسلسل الزمني في كتابة مذكراته، بل قسَّمها أجزاءً ذات أرقام تسلسلية وتحت معظمها عنوانٌ رئيس ثم عناوين فرعية، فحوَّلها إلى فصول بعنوان رئيس لكل منها، ما عدا الفصل الثاني، الذي أضاف إليه عنواناً كان قسطنطين قد ترك ذكره.

إضاءات هامة عن النشاط المسرحي

كتب قسطنطين مذكراته بين عامي 1926 و1928 بلغة عربية فصيحة تنتمي إلى طرائق الإنشاء السائدة وقتذاك، وقد  روى فيها قصة أول فرقة مسرحية في فلسطين، وعدد المسرحيات التي مثلتها وأسماءها بين عامَي 1880 و1883، وهو ما من شأنه أن يصح الكثير من المعلومات المغلوطة عن بدايات وريادة المسرح العربي.

وكان راجي سيقلي (شقيق قسطنطين) قد أسّس أول جمعية ثقافية في فلسطين باسم “الجمعية الأدبية” (1880)، ومن رحمها وُلدت الفرقة المسرحية الأولى في فلسطين التي كان قسطنطين بطلَها ونجمَها الأول.

وتشير المذكرات إلى أن طموح راجي سيقلي ومثقفين كبار كثيرين أمثاله،  أكبر من واقع مدنهم، وبحجم ولاية سوريا كلها، وليس أدل على ذلك من مشروع راجي الكبير بتأسيس فرقة مسرحية كبرى تمثّل قصص أبطال العرب في ميادين خيل، وملاعب شاسعة، يشارك فيها مئات الفرسان من الفلاحين والبدو، ويصنع إكسسواراتها حرفيون من مدينة دمشق، وهي التجربة اللافتة التي حظيت برعاية السلطان عبد الحميد شخصيًّا، حتى نالت اهتمام الجمهور الأميركي، الذي استقبل الفريق الفلسطيني الضخم في شيكاغو في عام 1893.

ولم تتوقف طموحات راجي بعد عودته من أميركا في عام 1894 عند ذلك، فحلم بتأسيس مجلة عربية ساخرة متخصصة في فن الكاريكاتير، لكنه لم يحقق حلمه إلا في القاهرة مطلع القرن العشرين. وأعلن راجي ترشحه لمجلس المبعوثان في عام 1909 لتمثيل متصرفية عكا، لكنه خسر المنافسة أمام الشيخ أسعد الشقيري.

هجرة المسيحيين العرب إلى أمريكا

تتطرق المذكرات إلى فتنة عام 1860 من خلال حارة النصارى المنفتحة على أفقها الطائفي المنغلقة في وجه محيطها الديني المختلف، وأيضًا من خلال ذكريات صاحب المذكرات عن والدته حين كانت تقصّ عليه أخبار التهديدات التي كانت توجَّه إلى حارة النصارى في حيفا من الجوار الطائفي المختلف الذي كان يتحفز للانقضاض عليها واقتسام أسلابها. كانت الدول الأوروبية في العقل الباطن لوالدة قسطنطين المنقذَ الوحيد من تلك التهديدات، في حين أن مَن منع الاعتداءات على حارات النصارى كان في الحقيقة شيخًا بدويًّا مسلمًا يُدعى عقيلة الحاسي.

كما تقدم هذه المذكرات معلومات مهمة عن ظروف الهجرة العربية المسيحية إلى أميركا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، إذ مع تجدد الشائعات عن عزم المشاركين في الحركة الارتجاعية ضد الدستور في عام 1909 على قتل مسيحيي عكا، هاجر صاحب المذكرات إلى الولايات المتحدة.

ويؤكد قسطنطين في المذكرات أن عكا والناصرة وحيفا وبقية مدن الجليل وقراها جزء من فلسطين، وأن فلسطين لا تتجاوز أفقًا هُوياتيّاً أوسع يضمّ بلاد الشام، ومن هنا تتبيّن أهمية هذه المذكرات وكونها أحد كتب السِّيَر النادرة لفلسطينيي القرن التاسع عشر قبل ظهور خطر الحركة الصهيونية وتعاظمها، وأظهرت تشكيل ثورة 1936 ثم نكبة 1948 بعدها عواملَ حاسمة في تبلور هوية فلسطينية ذات طابع مقاوم.

زر الذهاب إلى الأعلى