فنون وآداب

متلازمة المعرفة وتعالي المثقف السوري

محمد المير إبراهيم* – العربي القديم

المتلازمة في الاصطلاح الطبي هي مجموعة من الأعراض المختلفة التي تصيب الإنسان في وقت واحد نتيجة مرض ما. لها العديد من الأشكال المختلفة والأسباب… ولكن حديثنا ليس عن الطب،  بل عن متلازمة مطابقة بأعراضها لأيّ متلازمة طبيّة معروفة، إلا أنها بعيدةٌ كُل البعد عن الجسد البشري.

إنها متلازمة خيالية فكريّة إن صح التعبير، والفكر هو البعد الخامس للواقع الذي نعيشه، كما تحدّث الكثير عما يسمى بالحاسة السادسة.

إذاً فالواقع يمتلك ثلاثة أبعاد الطول والعرض والارتفاع، البعد الرابع هو الزمن ،الخامس هو الوعي.

متلازمة المعرفة هي مجموعة من الأعراض أصابت غالبية مثقفينا للأسف. كأن المعرفة أصبحت سمّاً يفتك بالعقول بدل الأجساد، في حين يفترض أن المعرفة هي الترياق الحقيقي لكل السموم التي يمكن أن تصيب عقل الإنسان أو جسده.

أول أعراضها هو التعالي الفكري عن باقي الناس. كأن المصاب بها قد امتلك سر الأسرار وحجة الحُجج وخبأ الحقيقة المُطلقة في جيبه الصغيرة، على قاعدة: أنت لا تعلم فاصمت.

ثاني الأعراض هو الإدمان عليها…  أي تعاطي المعرفة بحالة إدمانية غريبة، وممارستها بأكثر أشكالها سهولةً ألا وهي.. الكلام!

من خلال تلك الشهوة الطاغية للاستئثار بالحديث والحرص على انتقاء الاصطلاح المُفخّم المُبهرج… وفي وقتنا الحالي يفضل أن يكون معرباً أو بلغته الأم.

ثالث الأعراض هو حالة من الانفصال التام عن الواقع.. بحجة الاحتكام للبعد الخامس القائم عليه الواقع ذاته. كعازف آلة موسيقية وتريّة تمسّك بوترٍ واحد يروقُ له نغمه.. وترك باقي الأوتار.

رابعها وأخطرها: شقٌ هائل يفرِّقُ بين المعرفة والسلوك.  وكأن الرأس لا يتصل بالجسد ولا يملك سلطةً عليه. هذه المتلازمة تزيد درجة فتكها بالمصاب بها بشكل متناسب طرداً؛ فكلّما زادت المعرفة.. تضخمت الأنا وزادت هذه الأعراض مع الوقت.

سببها برأيي هو العطب المهول الذي نعاني منه على مستوى وجودنا وإحساسنا به وإدراكنا لهذا الوجود، وما نمتلكه من أدوات لممارسته.

 كُل إنسان يسعى كي يكون موجوداً. تختلف تمظهرات هذا الوجود وأدوات الاستدلال عليه وتحقيقه.

 يجد المصاب  في متلازمة المعرفة “أداة” لتحقيق وجوده هو لا أحد غيره. بالتالي تختلطُ المعرفة  بتفاصيله الذاتية الخاصة وتصبح كالرداء أو الأثاث وتفقد قيمتها الحقيقية وتنحدر لمستوى المادة. فتصبح طوعَ مالكها أحياناً وأحيانا أُخرى تتسلط عليه وتسيّرهُ كما تشاء بلا أي تحكم منه أو إدراك.

بناءً عليه حين تدخل المعرفة على ذات معطوبة ومأزومة تسعى للوجود بشكل قهري لا إرادي..

والنتيجة تكون متلازمة المعرفة بحالتها المرَضية التي تجعل المثقف مصاباً يخالج للاستشفاء.

رُبما يعتبر انتشار هذه المتلازمة واسع وطال غالبية البشرية، لكن خارج حدود وطننا العربي يبقى هناك طفرات استطاعت النجاة من هذا المس المعرفي وقدرت أن تندمج بروح وحقيقة المعرفة التي راكمتها البشرية منذ بداية تحضرها حتى هذا اليوم. ألا وهي دفع الإنسان إلى مرحلة جديدة والتناغم مع عجلة التطور الدائرة منذ فجر التاريخ.

بمعنى أن المعرفة هي الأداة الوحيدة التي امتلكها الإنسان وطوّعها لصالح تطوره ورُقيّه واستمراره. فماذا فعل مثقفو اليسار بما امتلكوه من معرفة عن اليسار عموماً والماركسية تحديداً؟

وماذا فعل مثقفو الإسلام السياسي بما امتلكوه من معرفة عن الدين الإسلامي وتفاصيله العقائدية والشرعية والمذهبية!؟؟

وهل فعل مثقفونا “الملحدون” شيئاً بما ادعوه من معرفة عن تاريخ الأديان وعن السياق العلمي الذي فسر وجودنا؟!

ماهي الحصيلة التي نتجت عن المعرفة التي امتلكها الليبراليون العرب عن الليبرالية ذاتها!؟

ماذا فعل أساتذة الجامعات في عالمنا العربي وفي سوريا تحديداً بما امتلكوه من معرفة في اختصاص معين ومحدد!؟

ماذا كان أثرُ هذه المعرفة على كل الشرائح التي ذكرناها كأمثلة فقط.. أثر المعرفة على سلوكهم وعلى حياتهم وماذا كان تأثيرهم كمالكي هذه المعرفة على الفرد.. والمجتمع.. والدولة!؟

أعتقد أن هذه الأسئلة تقبع في قلب ما قلناه عن متلازمة المعرفة.. تارةً كجواب وتارةً تفتحُ الباب أمام السؤال الأصعب..

إذا ما الحل!؟؟؟

هذا المقال هو محاولة للتشخيص ولتوصيف الظاهرة وطرح الأسئلة حولها، أما محاولة إيجاد العلاج كانت ومازالت وستبقى قائمة، مازال العقل الحُر قائماً.

_________________________

  • كاتب سوري من السلمية مقيم في ألمانيا

‫3 تعليقات

  1. نعم هذا مرض مجتمعي لكن المثقف الحقيقي يكون متواضعاً ويخبرك بأنه مازال يتعلم وهذا نادر للأسف.

زر الذهاب إلى الأعلى